من هم أعداء أمريكا الحقيقيون؟
من المشاهد أن الأوساط الإعلامية المتحيزة في أمريكا وبعض الأفراد من المسؤولين عندما يتطرقون إلى مواضيع لها علاقة بالعرب ينعتوننا بأننا أعداء لهم، حتى قبل أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. وأغلب ما نسمع هذا التعبير عندما يتعلق الأمر بتصدير النفط العربي إلى الأسواق الأمريكية. فنجد أنهم يعبِّرون عن عدم رضاهم وعن امتعاضهم من شراء النفط من أعدائهم "العرب". ولو كانوا يستوردون النفط من اليابان أو الصين أو حتى ألمانيا، هل سينعتونهم بالأعداء؟ لا نظن ذلك، مع أن شعوب تلك الدول فعلاً تكره الأمريكان في السرِّ والعلن لدوافع تاريخية. ولأمريكا علاقات تجارية ضخمة معهم، يميل ميزانها لصالح تلك الدول وتسيرها المصالح المشتركة، ولم نسمع قط أن الإعلام الأمريكي تعرَّض لشعوبها بكلمة إساءة واحدة كما يفعل مع الشريك العربي. وتستورد أمريكا كميات كبيرة من النفط من فنزويلا، وحكومة وشعب فنزويلا يجاهرون ليل نهار بعدائهم لأمريكا، ومع ذلك فالأمر طبيعي بالنسبة للمؤسسات الإعلامية الأمريكية.
نحن لا نزكيِّ أنفسنا، ولكننا ندَّعي أننا على وجه العموم أمة مسالمة ولا نضمر عداءً لا للأمريكان ولا لغيرهم من الشعوب الأخرى. وحتى من يَثبت أنهم أعداء لنا عبر التأريخ نعاملهم أفضل من معاملتهم لنا، متأثرين بالأخلاق العربية الموروثة وبالتوجيهات الإسلامية السامية. وتأريخنا الإسلامي مليء بشواهد العفو عند المقدرة من العهد النبوي الشريف إلى يومنا هذا. ولكننا في الوقت نفسه لا نرتاح للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ولا نتفق مع التوجه الأمريكي، وخصوصاً ما يتعلق منهما بقضية فلسطين وازدواجية معاملتها مع الأطراف المعنية. ولا نجد لهذا التصرف من قبل الإدارة الأمريكية أي مبرر إلا خضوعها للضغوط الداخلية من قبل جماعات ليس من أولوياتها المصالح الوطنية الأمريكية. ومع ذلك، ورغم التحيز الأمريكي الواضح ضد مصالح الأمة العربية، فإننا لا نضمر أي عداء للشعب الأمريكي. بل إننا في واقع الأمر نكن له احتراما وتقديرا خاصاً ونحن نتذكر المجهود الكبير الذي بذلته الشركات الأمريكية في سبيل البحث عن النفط في بلادنا، وتكوين شركة أرامكو العملاقة التي أسست البنية التحتية للصناعة النفطية الحديثة، وأصبحت الشركة مثلا في الكفاءة والنزاهة وحسن الأداء، حتى حان وقت تسليمها ونقل مسؤوليتها إلى الأيدي الوطنية بكل سهولة ويسر. وها هي "أرامكو السعودية" تواصل مسيرتها نحو مستقبل أفضل تحت قيادتها الوطنية.
ولا يمكن أن ننسى أو نغفل أن عشرات الألوف من الشباب السعودي، وكاتب هذه السطور أحدهم، تلقوا تعليمهم الجامعي والعالي في الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الماضية وحتى وقتنا الحاضر، ويتلقون ضيافة كريمة من الشعب الأمريكي. وقد كان الطلبة السعوديون الذين يتلقون التعليم في الجامعات الأمريكية عبر السنين مثالاً للخلق الحسن والإحساس بالمسؤولية واحترام النظم المحلية هناك. وكانوا يعودون إلى بلادهم وهم يحملون ذكريات طيبة عن الشعب الأمريكي.
أما علاقة الحكومة السعودية وسياستها الخارجية تجاه الحكومة الأمريكية عبر العقود، فأقل ما يقال عنها إنها كانت ولا تزال ممتازة، ويتم التواصل بين الطرفين على مستوى رفيع من الاحترام المتبادل. ولذلك فليس من الإنصاف أن يدعي رجل "عاقل" مقبل على رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية أن العرب، وهو يقصد بالطبع حكومات دول الخليج، أعداء لأمريكا!
ولو حصر أولئك ضيقهم وتبرمهم من استيراد النفط من الشرق الأوسط بالنواحي الاقتصادية والرغبة في ضمان وجود ما يحتاجون إليه من مصادر الطاقة داخل حدود بلادهم، لكان ذلك مقبولاً. أما أن يشوِّهوا الحقائق ويربطوا رغبتهم في توفير مصادر الطاقة محلياًّ، وهو ما تتمناه كل دولة، بالادعاء أننا أعداء لهم، فهو أمر لا يمثل الواقع. وإن كنا نعرف أن الدوافع الحقيقية لإطلاق مثل ذلك التعبير، خصوصاً من مرشحي الرئاسة الأمريكية، هو لمجرد إرضاء فئة معينة من تركيبة المجتمع الأمريكي ذات النفوذ المالي والإعلامي الكبير والولاء السياسي والروحي المزدوج. ونحن لا يهمنا كون المرشح للرئاسة في أمريكا يريد أن يتودد لهذا أو ذاك، ولكن كونه يختلق صفة غير موجودة لعلاقة " عرب الخليج " بأمريكا، ومن ثم ينقلها إعلامهم المتحيز إلى عامة الشعب الأمريكي، فذلك يضر حتما بمستقبل العلاقات بين البلدين، وهو أمر لا نود حدوثه.
ومن المرجَّح أن هناك دوافع أخرى لوصف العرب بأنهم أعداء لأمريكا، وذلك إرضاءً للفئة المتدينة الذين يطلق عليهم المحافظون، ربما بسبب كون العرب يدينون بالإسلام، مما يجعل فهم الأمر أكثر وضوحاً. ولكن الإسلام يشمل أمماً كثيرة ومن جنسيات مختلفة، ولم نسمع أن أحداً من المسؤولين أطلق على أي من تلك الشعوب صفة عدو أمريكا. أضف إلى ذلك أن أكثر من ثمانية ملايين من مواطني الولايات المتحدة يدينون بالإسلام، وليس من المقبول ولا من حسن الذوق أن يصف مسؤول كبير المسلمين في أمريكا بأنهم أعداء لبلادهم!
فهل نقول إنه عدم وضوح الرؤية عند أولئك المسؤولين؟ ربما، ولكن المضحك أن أحد أفراد الشعب الأمريكي ممن تأثروا بهذه الدعاية التي لا تمثل الواقع، أراد أن يعبِّر عن تقبله مضمونها، فأنشأ محطة وقود وكتب عليها "نحن نبيع نفط غير إرهابي"، أي أنه غير مستورد من العرب. وربما أنه لا يدرك أن معظم معامل التكرير التي تمدُّ محطته بالوقود تستقبل النفط الخام من مصادر مختلفة من العالم، وهو بطبيعة الحال، لا يعلم مصدر النفط الذي انتهى إلى محطته. أما نحن المنتجين فلا يهمنا منْ يشتري نفطنا، فالقيمة والعملة واحدة.
وهذا يذكرني بموقف طريف سمعت عنه منذ ما يزيد على 60 عاماً. فقد كان هناك إمام مسجد كبير السن، يتسلم راتباً شهرياًّ من الحكومة مقابل إمامته. وكان يشك في مصادر أموال الدولة ولا يطمئن إن كانت كلها من مصدر حلال. فكان يذهب بعد أن يتسلم الراتب إلى صديق له يمتلك محلاًّ في السوق التجاري ويطلب منه تغيير تلك النقود بنقود أخرى. فيأخذ صاحبه المبلغ ويدلف داخل المحل ثم يعود بنفس النقود ويسلمها له على أنه غيرَّها فيسعد الرجل ويرتاح ضميره. والشاهد هنا أن عقليِّة صاحب محطة الوقود لا تختلف عن عقليِّة ذلك الرجل البسيط.