جوانب من عناية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السامية ببناته
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد:
الأولاد زينة الحياة, وبهجة الدنيا, وأجزاء من الإنسان غالية تتهادى بين ناظريه .
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف:46].
ويصور المصطفى صلى الله عليه وسلم المكانة الأثيرة للولد في قلب أبويه حينما وصف الحسن والحسين ابني بنته رضي الله عنهما بقوله: "هما ريحانتاي من الدنيا " رواه البخاري.
وأحسن الشاعر في تصوير تلك المضغ الأثيرة في قوله:
لكنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
والأبوان لا يمكنهما أن يفرِّقا في حبهما لأولادهما من بنين وبنات, غير أن البنت لما كانت مجبولة على الضعف واللطف, فقد يتسلل إلى القلب مزيد رحمة وشفقة عليها وعناية ورعاية لشأنها.
وقد لحظ الشارع الحكيم ما قد يطرأ من صور الهضم على البنات, فجاءت المعالجة والاحتياط ترهيباً وترغيباً, ترهيباً من إثم التفريط في شأنهن, وترغيباً في أجر رعايتهن والإحسان إليهن.
وقد كان تعامل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع بناته أنموذجاً يحتذى وطريقاً يقتفى, وقد قال الله جل وعلا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21].
وإذا ما توقفنا عند السيرة التي كان عليها المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع بناته الكريمات, فإننا ندرك أنهن كُنَّ يرفُلن في حنو قلب عطوف ويتفيأن رعاية راقية وعناية لا نظير لها .
زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة, هُنَّ بنات سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم, ورضي الله عنهن, لقين من عناية أبيهن عليه الصلاة والسلام ورعايته ما يعد أسوةً لكل الآباء, حيث كان يحدب عليهن, ويلطف بهن, ويسعى لكل سرور يدخل على نفوسهن, كان يشاركهن أفراحهن, ولا يغيب عن أتراحهن, يفرح لفرحهن, ويأسى لحزنهن, حتى إنه ليعدهن جزءاً نابضاً من ذاته الشريفة.
والمواقف والأمثلة في هذا تتواكب إشراقاً ونوراً في التعامل الأخلاقي العظيم.
تقول عائشة: كُن أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنده لم يغادر منهن واحدة, فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئاً, فلما رآها رحَّب بها, فقال: "مرحباً بابنتي" ثم أجلسها عن يمينه, أو عن شماله. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
لقد بلغت آثار الرحمة والحنو في نفوس بنات المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى الحد الذي جعلهن يقلِّدنه حتى في مشيته وتعامله، فصار ذلك سمةً ظاهرةً لهن.
وفي جانب آخر يعبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأبلغ الأساليب عن مكانة بناته إلى الحد الذي صِرن معه ملء سعادته حين يكُنَّ سعيدات، وأن يكون متألماً لأدنى ما يكدر خواطرهن.
ففي صحيح البخاري عن المسور بن مخرمة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "فاطمة بَضْعةٌ مني, فمن أغضبها أغضبني".
وفي الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في إحدى المناسبات التي أُغضبت فيها فاطمة: "وإن فاطمة بضعة مني, وإني أكره أن يسوءها ... " الحديث.
وعن طريقة التعامل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بناته وكيف كان يعظم شأنهن ويشعرهن بوافر حبه ورحمته بهن توضح ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً وهدياً ودلاً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فاطمة, كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه, وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبَّلته وأجلسته في مجلسها. رواه أبو داود والترمذي.
وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر زيارتهن وتفقد أحوالهن ووصيتهن ونصحهن, ويعتني بأولادهن . ويلاحظ علاقتهن بأزواجهن ليصلح من شأنهن ويساعدهن على تجاوز المشكلات، ومن أمثلة ذلك:
ـ ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى أتى سوق بني قينقاع فجلس بفناء بيت فاطمة فقال: " أثَمَّ لُكَعْ... أثَمَّ لُكَعْ [كلمة دارجة تقال عند المناداة وفيها معنى الملاطفة] فحبسته فاطمة شيئاً, فظننت أنها تلبسه سخاباً أو تغسله, فجاء يشتد حتى عانقه وقبله, وقال: "اللهم أحببه وأحب من يحبه".
ـ ما ثبت في الصحيحين عن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغها أنه جاءه رقيق, فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة, فلما جاء أخبرته عائشة, قال: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال: "على مكانكما" فجاء فقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدميه على بطني فقال: "ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكَبِّرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم".
ـ وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: "أين ابن عمك؟" فقالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يَقِلْ عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: "انظر أين هو" فجاء فقال: يارسول الله هو في المسجد راقد, فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب فجعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمسحه عنه ويقول: "قم أبا التراب, قم أبا التراب".
ولما كانت الأمراض تنزل بهن كان يساندهن ويقوي من عزائمهن, ولما ماتت زينب ورقية وأم كلثوم في حياته عظم عليه فراقهن وبكى لأجلهن, وكان قريباً من مغسلاتهن, يعلمهن كيف يجهزنهن, ويبالغ في توصيتهن, برغم ما كان يعتصره من الألم وما يتفطر به فؤاده من الأسى, راضياً صابراً محتسباً ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وعن أم عطية قالت: توفيت إحدى بنات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ , فأتانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: " اغسِلْنَها بسدر, واغسلنها وتراً: ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك, إن رأيتُنَّ, واجعلن في الآخرة كافوراً, أو شيئاً من كافور, فإذا فرغتُنَّ فآذِنَّنِي, قالت: فلما فرغنا آذناه عليه الصلاة والسلام, فألقى إلينا حِقوه فقال: " أشعرنها إياه " رواه أحمد وغيره.
وبعد: فذلكم جانب مختصر من عناية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورعايته لبناته, وعلى هذا الهدي ينبغي أن يسير السائرون وأن يسلك السالكون .
كما أن هذه الصفحات الوضيئة لمما ينبغي أن ينشر بين العالمين, ذلك أن الفتاة التي عانت في الجاهلية الأولى الظلم والاستبداد, هاهي اليوم تعاني في أصقاع الدنيا ظلماً وبغياً كبيراً, يقوم على استغلال أنوثتها والمتاجرة بعواطفها, حتى ظنت الفتيات أن الحياة وبهجتها والدنيا وزينتها إنما هي في إطلاق المشاعر واستعراض المفاتن, ليستلبهن اللصوص وينتهبهن المبطلون.
ومن أعظم ما يكون من حماية مشاعر الفتاة ورعاية عواطفها أن تجد ذلك الحضن الأبوي الدافئ, كي تستظل في وارف ظلاله وتستروح في عبق عبيره, ما تحتمي به من نزوة عابرة أو استجاشة للمشاعر مندفعة.
وفق الله الجميع لما فيه الخير, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.