لا مركزية الامتحانات ومركزية ضبط الجودة
منذ أن تأسست وزارة التربية والتعليم، وتحت أسمائها المختلفة وهي تأخذ بفلسفة الامتحانات المركزية، وذلك للسنوات النهائية لمراحل التعليم العام الابتدائي، المتوسط، والثانوي، لكن هذه الفلسفة طرأت عليها تغيرات، حيث تخلت الوزارة عن مركزية المرحلة الابتدائية، والمرحلة المتوسطة إلا أن المرحلة الثانوية استمر الأمر على ما هو عليه فترة طويلة حتى العام الدراسي الماضي، إذ تم خلاله تخلي الوزارة عن المركزية بجميع صورها، وأشكالها، حيث تم إسناد مهمة عمل الأسئلة، وتصحيح أوراق الإجابات للمدارس مباشرة، ولم تكلف بها حتى إدارات التربية، والتعليم في المناطق، والمحافظات. الأساس الذي تقوم عليه فلسفة الامتحانات المركزية هو توحيد الإجراءات، أو الإجراء الذي يتم بناء عليه تحديد مستويات الطلاب في المرحلة الثانوية، أي بعبارة أخرى إيجاد معيار موحد يضمن أسئلة موحدة لجميع المتقدمين للامتحان في نهاية المرحلة الثانوية، ومع أهمية هذا الأساس الذي بنيت عليه فكرة الامتحانات المركزية، إلا أن الوزارة واجهت الكثير من المشكلات خلال السنوات التي طبقت فيها الامتحانات المركزية، ومن أهم هذه المشكلات عملية نقل هذه الأسئلة إلى المناطق والمحافظات، وتسرب الأسئلة والسطو عليها من قبل البعض وهي في أحرازها داخل المدارس، إضافة إلى أن الوزارة لا تضمن تنفيذ الامتحانات، وإدارتها من قبل المدارس بالصورة الموضوعية، حيث تتساهل بعض المدارس أو بعض المراقبين، ويعطون فرصة للطلاب أو الغش، والنقل إما من أوراق أو من بعضهم بعضا، والحالات التي وقعت كثيرة، ما يعني وجود شوائب في التجربة السابقة، إضافة إلى التكلفة المالية من تشكيل لجان، ووضع أسئلة، وتصحيح مركزي، وأخطاء تقع في عملية التصحيح أو عملية رصد الدرجات. أتذكر أثناء فترة عمادتي لكلية التربية الكثير من الحالات التي تدل على الخلل الذي قد يقع مع تبني مركزية الامتحانات، في أحد الأصياف كنا نجري امتحانات، ومقابلات شخصية للمتقدمين للدراسة في كلية التربية، وقد واجهت إحدى لجان القبول في الكلية مشكلة، إذ إن أحد الطلاب قد حاز على نسبة ثانوية عامة عالية تبلغ 96 من مائة، ودرجته في القرآن الكريم كانت 97 درجة إلا أن المفاجأة المؤسفة أن الطالب لا يحفظ شيئاً من القرآن، ولا حتى قصار السور التي لا بد لكل مسلم حفظها لأداء الصلاة. كما أن كتابته لا تدل على النسبة التي حصل عليها، حيث الكثير من الأخطاء الإملائية، ناهيك عن الأخطاء النحوية، ما يعني أن الدرجة العالية التي حصل عليها الطالب لا تعبر عن مستواه الضعيف، وهذا يؤكد الخلل الممارس من قبل بعض المدارس، أو المعلمين في منح الدرجات الفعلية، أو التساهل في إدارة الامتحانات النهائية تعاطفاً مع الطلاب، خاصة مع وجود صعوبة في الالتحاق بالجامعات ومؤسسات التعليم العالي، لكن هذا ليس مبرراً مقبولاً لهذه الممارسات. كما أذكر موقفاً حدث معي شخصياً، إذ طلب مني أحد الزملاء تحويل قريب له من إحدى الجامعات إلى الكلية، وألح عليّ في ذلك رغم انتهاء فترة التحويل فطلبت منه إحضار قريبه لعمل إجراءات التحويل من مقابلة، وامتحان، وقد توليت هذا الأمر بنفسي، وأمام الزميل، وطلبت من الطالب الراغب في التحويل قراءة قصار السور فلم يتمكن، وطلبت منه إعراب قام محمد فلم يتمكن، وطلبت منه تذكر أي قصيدة أو بيت شعر فلم يتمكن، وعندها حس الزميل بحرج موقفه، وما كان منه إلا أن شكرني وانصرف.
هذه حالات واقعية مرت بالامتحانات المركزية، واجتازت وحصلت على درجات عالية، لكن هذه الدرجات لا تعبر عن الواقع الفعلي لهؤلاء الطلاب، ولا تعكس التحصيل الدراسي الحقيقي.
مركزية الامتحانات يفترض أن تسهم في ضبط جودة التعليم في جميع مناطق المملكة ومحافظاتها، خاصة أن الجميع يدرسون مناهج موحدة، ويخضعون لسياسة تعليم واحدة، وتشرف عليهم جهة واحدة هي الوزارة، لكن الممارسات في الميدان تتعدى الامتحان النهائي إلى التدريس والواجبات، والامتحانات الشهرية، ودافعية المعلم، والطالب على حد سواء، والبيئة التعليمية المناسبة، والاتجاهات الإيجابية للمعلمين نحو طلابهم، والعكس صحيح، ما ينعكس على مستوى الطلاب في تحصيلهم وتأهيلهم. ومع التغيير الذي حدث بشأن التخلي عن مركزية الامتحانات إلى اللامركزية المطلقة يحسن أن نتساءل عن موقع جودة التعليم في هذا الوضع.
إن اللامركزية تمنح العاملين في الميدان الثقة، وتجعلهم يتعدون مسألة الامتحان إلى جودة الأداء التعليمي الذي يفترض أن ينعكس على تحصيل الطلاب، والمهارات التي يكتسبونها في جميع المجالات، لكن ترك الأمر مطلقاً بهذه الصورة لا يكشف للمسؤولين في الوزارة واقع العملية التعليمية في نتائجها النهائية من صقل شخصيات الطلاب، وإكساب للمعارف والمهارات وتنمية للقدرات وتغيير في الاتجاهات وتشكيل للميول والرغبات، وبما يخدم الوطن، والمجتمع في نهاية المطاف.
إسناد الوزارة تطبيق اختبار الكفايات للمعلمين إلى مركز القياس الوطني فكرة جيدة، فالمركز جهة مستقلة لا تخضع لسلطة الوزارة، وهذا يجنب الوزارة الإحراج بشأن ما يتخذ من إجراءات أو قرارات بشأن بعض الأفراد المتقدمين للعمل في حقل التعليم أو المعلمين الأقل كفاءة ممن هم على رأس العمل، ما يحفزهم إلى تطوير أنفسهم والالتحاق بالدورات، وورش العمل التي تساعد على الارتقاء بأدائهم في الميدان، لكن هذا لا يكفي، إذ لا بد أن تقوم الوزارة بتفعيل، وتطبيق الاختبار التحصيلي المقنن الذي يطبق بصورة منهجية على مدارس منتقاة في المناطق والمحافظات بهدف المقارنة بينها وبين أداء الطلاب داخل المنطقة أو المحافظة أو على المستوى الوطني العام، وإذا تم العمل بالاختبار التحصيلي المقنن فهذا سيساعد على الكشف عن مواطن القوة والضعف في المدارس، وفي التخصصات المختلفة، ومن ثم فكل مدرس سيبذل جهده للارتقاء بمستوى طلابه حتى يكونوا على مستوى المنافسة، ليس على مستوى المنطقة أو المحافظة التي توجد فيها مدرسته، بل على مستوى الوطن بصورة أشمل. إن العمل على ضبط جودة الأداء في الميدان هو الخطوة الأساسية لضبط جودة التربية والتعليم التي نتطلع إلى منافسة الآخرين فيها، لأن حقل التربية والتعليم هو منطلق جودة أداء المجتمع في المجالات كافة.