من جاكرتا إلى موسكو
من إندونيسيا إلى روسيا ينبىء المشهد النفطي بحالة من التعقيد تتمحور كلها حول المتاعب التي تحيط بالإنتاج. فإندونيسيا فيما يبدو حسمت أمرها وقررت أخيرا الانسحاب من عضوية منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) بعد أن أصبحت دولة مستوردة للنفط، وبالتالي مصالحها مختلفة عن المصدرين. أما روسيا التي دخلت عهدا جديدا في تطورها السياسي بتولي ديمتري ميديفديف رئاسة الجمهورية وفلاديمير بوتين رئاسة الوزارة، فالأنظار ستتابع إذا كان الوضع سيستمر على ما هو عليه ومن ثم تتسارع عمليات التراجع في الإنتاج، أو أن الدعوة إلى تقليص الضرائب على الصناعة النفطية والشركات العاملة فيها ستجد طريقها إلى أرض الواقع بما يسمح باستغلال أفضل للاحتياطيات الموجودة المؤكد منها والمحتمل خاصة في المناطق القطبية.
إندونيسيا ظلت دائما منتجا هامشيا، إذ إن إنتاجها لم يسمح لها أبدا بلعب دور أكبر، لكن المتعاملين في سوق النفط و(أوبك) تحديدا يذكرون جيدا وزير النفط الأسبق فيها اللطيف المعشر الدكتور سوبروتو، الذي بقي في منصبه عقدا من الزمان أعطى بلاده وجها مألوفا في المؤتمرات ووسائل الإعلام، وفيما بعد اختارته (أوبك) أمينا عاما بين 1988 و1994، ليدشن بذلك عهد تولي وزراء سابقين منصب الأمانة العامة، وليوفر حلا لحالة الجمود التي كانت سائدة بعد الاعتراض من قبل دولة عضو على مرشح من دولة أخرى، كما يحصل عادة، الأمر الذي جعل هذا المنصب يدار بالوكالة في أحيان كثيرة لفشل الدول الأعضاء في الاتفاق على مرشح مقبول للجميع.
قرار إندونيسيا يعني في واقع الأمر الاعتراف بالحقائق وعدم الجري وراء الأوهام، فحقيقة أن إندونيسيا أصبحت دولة مستوردة وأنها تحتاج إلى ضخ 1.3 مليون برميل يوميا إضافية كل عام لمقابلة احتياجات الاستهلاك المحلي فقط معروفة منذ عدة سنوات، لكن بعض المسؤولين الإندونيسيين كانوا يكابرون أملا في رفع الإنتاج وأملا في ألا يفقدوا ورقة الدولة المنتجة بما لها من ألق وشيء من الثقل على مستوى السياسة الدولية.
لكن النقطة الأهم أن الدولة الآسيوية الوحيدة العضو في (أوبك) قررت ترك المنظمة، لأنها ببساطة لم تعد دولة مصدرة للنفط. يحدث هذا في الوقت الذي يشكل فيه الطلب الآسيوي على النفط العامل الدافع وراء زيادة الاستهلاك ومن ثم ارتفاع سعر البرميل. وهذا ما ينقلنا إلى الجانب الآخر: فهل تقوم روسيا، خاصة في جزئها الآسيوي بالتعويض عن غياب إندونيسيا ومقابلة التصاعد في الطلب؟
إعلان إندونيسيا تزامن مع الانتقال الذي شهدته القيادة الروسية، وهذا الانتقال صاحبه بروز أرقام جديدة عن الإنتاج النفطي الروسي، والجديد فيه القناعة التي بدأت تترسخ أن روسيا التي لم تستطع الوصول إلى إنتاج عشرة ملايين برميل يوميا كما كانت تدعي وتأمل، وأن الشهر الماضي شهد تراجع الإنتاج للشهر الرابع على التوالي، وأنه بذلك أصبح يقل بما مقداره 2 في المائة عن القمة التي بلغها قبل خمسة أشهر وهي 9.9 مليون برميل يوميا.
ترجمة هذه الأرقام من ناحية أخرى تعني أن جهود بوتين لتقديم روسيا مصدرا مأمونا للإمدادات للدول المستهلكة والغربية تحديدا لم تحقق نجاحا أو أن علامات الاستفهام تحيط بها على أحسن الفروض، وهو ما يشير إلى أن مساعي الدول الغربية المستهلكة، خاصة الولايات المتحدة، توفير بدائل عبر إفريقيا أو روسيا لا توفر بديلا لنفط الخليج يمكن الاعتماد عليه.
لكن في واقع الأمر، فإن ما عانته إندونيسيا ودفعها إلى الانسحاب من (أوبك) وما تعانيه روسيا إنما هو في واقع الأمر انعكاس لمشكلة أكبر تتمثل في نمو الطلب وهو ما يعود إلى دخول مستهلكين جدد لم يكونوا في الحسبان. فالملايين من الصينيين والهنود وغيرهم فاجأوا مراكز الرصد والتحليل بدخولهم مستهلكين للنفط ومنتجاته، خاصة بعد تحول الملايين إلى قيادة السيارات بدلا من الدراجات الهوائية مثلا. وكانت المفاجأة تحديدا في العامين 2004 و2005، عندما سجل الطلب الصيني والآسيوي عموما النصيب الأكبر في النمو، وهو ما لم يكن في وارد الحسبان.
المفارقة أن المتاعب في الإمدادات لا تعود إلى نقص في توافر النفط، وهي النقطة التي يركز عليها مؤيدو نظرية ذروة النفط القائلة إن حجم الإنتاج والاحتياطيات وصلت إلى مداها الأقصى، وإن الطريق المتاح فقط هو حدوث انحدار متواصل في الإنتاج. لكن السبب يرجع إلى سوء في السياسات وعدم قدرة على استغلال الاحتياطيات الموجودة، وروسيا نموذج على هذا، فباحتياطياتها المؤكدة التي تبلغ 80 مليار برميل يمكن أن يضاف إليها 100 مليار برميل أخرى غير مؤكدة كان يمكن أن تمثل مصدرا مستمرا لمقابلة النمو في الطلب، لكن السياسات المتبعة بدأت تعمل في اتجاه معاكس لما أنجزته من العقد الماضي.