مضاربات وسوء توزيع وممارسات احتكارية تدفع أزمة الغذاء إلى "الهاوية"
يتوقع خبراء أن يغير غالبية سكان الأرض من عاداتهم الغذائية، مع تكرار الدعوات من الهيئات الدولية لاتخاذ إجراءات طارئة لمواجهة أزمة غذاء محتملة في العالم، ورغم ما يبدو من خطر مجاعة، إلا أن كمية الغذاء التي تنتج وتحديدا المحاصيل الزراعية الغذائية، لم تشهد نقصا حادا بقدر ما ارتفعت الأسعار. وضاعف من المشكلة أن تلك الأسعار العالية لا تعود على الفلاحين والمزارعين، وإنما تذهب للشركات الكبرى والتجار العالميين في الحبوب والمحاصيل الزراعية. ورغم زيادة الطلب على الأغذية، من حبوب ولحوم، خاصة من اقتصادات سريعة النمو إلا أن العرض ليس بالسوء الذي تصوره التصريحات الحالية. فإلى جانب الضغط على الموارد هناك أيضا مضاربات وسوء توزيع وممارسات احتكارية وانتهازية تسهم في دفع الأمور إلى أزمة.
الإنفاق على الغذاء.
وبحسب تقرير بثته هيئة الإذاعة البريطانية، فإن الدول الفقيرة والنامية، حتى الزراعية منها، هي التي تعاني أكثر أزمة الارتفاع الهائل في أسعار الغذاء في العالم على ما يبدو.
ذلك أن أهمية الغذاء في الإنفاق الإجمالي للمستهلكين تتناسب عكسيا مع مستويات الدخل.
فعلى سبيل المثال يمثل الغذاء 60 في المائة من سلة الاستهلاك للسكان في إفريقيا جنوب الصحراء، فيما لا يمثل أكثر من 30 في المائة في الصين و10 في المائة فقط في الولايات المتحدة، حسب تقديرات صندوق النقد الدولي.
أما أسباب الضغط على المعروض الغذائي في الأسواق العالمية فبعضها موسمي مثل الجفاف الذي ضرب المحصول الأسترالي من القمح وأدى إلى تراجع محاصيل المغرب في الموسم الماضي على سبيل المثال، أو الصقيع الذي أضر بالزراعة السورية والأردنية مثلا هذا الموسم.
وإن كانت تلك الظروف المناخية تغيرت إلى الأفضل، وتحسن المحصول في معظم تلك المناطق التي تضررت من قبل.
هناك شبه إجماع على أن اضطراب النمط المناخي التقليدي يعود إلى إضرار البشر بالبيئة، وهو الضرر الذي تسببت في معظمه تاريخيا الدول الصناعية الغنية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان.
ومما يزيد من كون الأزمة أزمة غنى وفقر أن الدول الصناعية، تريد الاستعاضة عن الوقود التقليدي بوقود حيوي من المنتجات الزراعية.
وارتفاع أسعار الغذاء لا يعود بالفائدة على فقراء المزارعين، وينعكس ذلك على المعروض من الغذاء، فدول أمريكا اللاتينية مثلا مطلوب منها تحويل قدر كبير من الذرة والقمح الذي تنتجه إلى إيثانول لتموين السيارات الأمريكية والأوروبية بوقود رخيص. وطبعا تجد تلك الدول الزراعية الجنوبية أن الوقود من الزراعة أربح لها من بيع الحبوب، دون إدراك لعواقب ذلك على تغذية مواطنيها والعالم.
أضف إلى ذلك تدمير الغابات لصالح صناعات الأخشاب الكبيرة وتجريف الأراضي. وكل تلك التعديات البيئية تأتي من العالم الصناعي الغني وشركاته الكبرى.
وحسب تقارير منظمات الأمم المتحدة أخيرا يستمر القضاء على الغابات بمعدل 130 ألف كيلومتر مربع سنويا في الغابات الاستوائية. ولم يعوض ذلك إلا بنحو 30 ألف كيلومتر مربع من الغابات المستزرعة ما بين 1990 و2005. كما أن استصلاح الغابات في حوض الأمازون آخذ في التباطؤ، ونسبة الأراضي المحمية في العالم الآن هي 12 في المائة.
كما أن نسبة كبيرة من الأراضي الزراعية تتعرض للاستغلال الكثيف، ما يؤدي إلى تآكل التربة (التبوير أو التجريف) وهو تطور لا يقل خطورة عن التغيرات المناخية السلبية.
وتعني زيادة الطلب على المواد الغذائية أنه بحلول عام 2030 ستحتاج الدول النامية إلى 120 مليون هكتار إضافية من الأراضي الزراعية لتغذية سكانها.
وتقدر تلك التقارير أن الدول التي تعاني نقصا غذائيا ومحدودية دخل ستنفق هذا العام أكثر من 28 مليار دولار ـ بأقل تقدير ـ على استيراد الحبوب، أي ضعف ما أنفقته عام 2002.
وإضافة إلى ما سبق، يسهم كبار أثرياء العالم في زيادة أسعار الغذاء عبر المضاربة على أسعاره وتحقيق مئات المليارات من الدولارات من الأرباح السهلة والسريعة على حساب المليارات من فقراء العالم.
ذلك أن صناديق التحوط وصناديق الاستثمار الخاصة دخلت سوق السلع بكثافة هروبا من عدم اليقين الذي ساد الأسواق المالية وانهيار العملة الأمريكية، الدولار.
حتى صناديق الثروات السيادية، التي غالبا ما تستثمر في السندات والأصول العقارية بدأت في تنويع محافظها الاستثمارية عبر دخول أسواق السلع.
الدول المنتجة للحبوب توقف تصديرها لتوفيرها في السوق المحلية بأسعار معقولة، كل ذلك أدى إلى ارتفاع أسعار تلك السلع، ومنها الزراعية والغذائية، عبر المضاربات الهائلة على عقودها الآجلة.
ومما ضاعف من مشكلة أسعار الغذاء، أكثر من حجمها الحقيقي، لجوء بعض الدول المصدرة للمنتجات الزراعية والغذائية إلى فرض قيود على الصادرات.
وبدأت بذلك دول كبيرة مثل روسيا العام الماضي وتبعتها دول أخرى كتايلاند والأرجنتين والهند وغيرها. وزادت تلك الدول من رسوم التصدير للحفاظ على المحاصيل متوفرة في السوق المحلية، في محاولة للإبقاء على الأسعار منخفضة تفاديا لتوترات سياسية واجتماعية.
ومن شأن تلك الإجراءات الحمائية زيادة حساسية السوق، في ظل مضاربات المستثمرين، واستمرار ارتفاع الأسعار. وبلغ الأمر إلى حد ذكر بعض التقارير الصحفية أن الدول المصدرة للثروة الحيوانية ومنتجاتها تفكر في تكوين تكتل لضبط سوقها، على غرار منظمة أوبك للدول المصدرة للنفط.