لو عثرت بغلة في العراق لانتفضت السوق...!

[email protected]

سوقنا المالية (الأسهم) مرهفة الإحساس, تتدفق عاطفة ونرجسية, وتمتاز بروح الوضوح والشفافية, لهذا: تتعطل سيارة سائق فرع شركة الأسمنت في سوق الحائر لبيع الدجاج والحمام, فينخفض مؤشر أسهم تلك الشركة، ويسقط عمود خيمة راعي غنم أحد المساهمين في الشركة الزراعية, فيحمر مؤشر أسهمها، ويصاب جار حارس عمارة إحدى شركات الحديد والصلب بنزلةٍ معويةٍ "حادة", فيهوي مؤشر أسهمها، وتعثر بغلة في العراق أو في الصين, يشتبه أنها لأحد المارة في سوق التداول, فتنتفض السوق, وتهتز الثقة, ويصبح مجهول الحال!
وتعلن إحدى الشركات القيادية عن أرباحها ـ قبل أيام ـ والبالغة 21.71 مليار ريال, بزيادة نسبها 8 في المائة, فينخفض مؤشر السوق في اليوم التالي, ويتراجع بنسبة 5.23 في المائة. وتعلن شركة أخرى عن خسائرها البالغة (...), فتستجيب السوق, ويخضر مؤشر أسهم تلك الشركة, وتبرق أسارير وجهه.
وتعلن شركة أخرى عن انخفاض أرباحها بنسبة 35 في المائة, فيستجيب مرة أخرى, ويرتفع مؤشر أسهمها، وهنا أعلنها مدوية: يحيا العدل, ويحيا السعر العادل, ويحيا الاقتصاد, ويحيا الاستثمار, وكل عام وسوقنا بألف خير.
وفي سوق مالية مجاورة, تنهار أسواق غربية, فلا يستجيب مؤشر السوق فحسب, بل يستجيب الآدميون أنفسهم, فيُغسّل خمسة مواطنين, ويكفنون, ويصلى عليهم, وترمّل نساؤهم, وييتم أطفالهم, وتعيش أسرهم مأساتين, مأساة فقد الوالد, ومأساة فقد المال, أسأل الله تعالى أن يلطف بهم, وأن يخلفهم خيرا, آمين, آمين, آمين.
يقول العديد من هواة السوق ومحبيها: إن هذه الأسواق المالية بآلياتها المعاصرة, تخدم سوق الاستثمار, وتوفر السيولة, وتعزز النمو الاقتصادي, ووو...., ولكن الواقع أن البلد ومواطنيه والاقتصاد ككل لا يرفع رأساً لهذا الكلام النظري, ولا يعنيه هذا التصريح الجميل البهي, ما لم يكن له رصيد من الواقع, لأن الواقع هو الذي يفرض نفسه في النهاية, حيث أصبحت السوق بواقعها الحالي محرقة لمدخرات الناس, وأحياناً محرقة لبعض الناس, عياذاً بالله, وبالتالي لم يعد دخول السوق مجدياً, بل أصبح مضراً ما لم ينهض عقلاؤنا, والمتخصصون منا في الفقه والاقتصاد, بوضع آليات معينة تحد من المضاربة, وتعزز الاستثمار, لئلا تعود السوق وبالاً على الشركات الرابحة والمنتجة, وعلى الناس, على حد سواء..."يراجع قرار (رقم 59) الصادر من مجمع الفقه الإسلامي قبل نحو عشرين سنة...!".
دعوني أضرب لكم مثلاً سهلاً, للاستثمار بنوعيه, الحقيقي, والوهمي:
لنفرض أن أحد رجال الأعمال اشترى أرضاً في إحدى مناطق المملكة بمبلغ مليون ريال؛ ليبني فيها عمارة من ثلاثة طوابق واثنتي عشرة شقة, يؤجرها كشقق سكنية, وتدر له ريعاً يومياً أو شهرياً أو سنوياً, وبعد أن اشتراها عبر مكتب عقاري اتجه إلى مكتب هندسي ليستخرج لها مخططا مناسبا بمبلغ وقدره 40 ألف ريال, ثم اتفق مع مقاول بمبلغ معين ليبني له العمارة السكنية حسب المخطط المعتمد, والمقاول لديه 30 عاملاً, وبعد أن انتهى من بنائها, وشراء ما يكفي من مواد البناء والكهرباء والتكييف, اتجه شطر محال الأثاث ليقوم بتأثيث العمارة بما يلزم, ثم ذهب إلى محال المفروشات ليشتري الفرش والكنب, ثم اتفق بعد ذلك مع أحد مكاتب العقار ليؤجر هذه الشقق بسعر السوق, وكانت التكلفة الفعلية على التاجر لكامل العقار ثلاثة ملايين ريال فقط.
لنتأمل, ولنقف وقفة مع هذا الاستثمار, ولننظر كم حقق من عوائد للتاجر, والمواطن, والمجتمع:
لقد استفاد أولا بائع الأرض, ووضع في رصيده مبلغ مليون ريال, يمكن أن يحقق له عائداً استثمارياً آخر. واستفاد ثانياً صاحب مكتب العقار, بحصوله على السعي 2.5 في المائة, والبالغ 25 ألفا, وهذا يمكن أن يحقق له عائداً استثمارياً آخر. واستفاد ثالثاً المهندس المعماري بحصوله على مبلغ 40 ألف ريال, وهذا أيضا يمكن أن يحقق له عائداً استثمارياً آخر. واستفاد رابعاً المقاول, بحصوله على عائد مالي بمبلغ وقدره (...)، واستفاد خامساً 30 عاملاً, بحصولهم على عائد مالي شهري, يعولهم ويعول أطفالهم وأسرهم لمدة سنة أو سنتين أو أكثر. واستفادت سادساً شركات بيع الحديد والأسمنت والبلك، واستفادت سابعاً محال بيع أدوات النجارة والألمنيوم والبويه، واستفادت ثامناً محال بيع الكهرباء والتكييف، واستفادت تاسعا محال بيع المفروشات والأثاث، واستفاد عاشراً المكتب العقاري الذي يأخذ أجرة السمسرة على تأجير الشقق، واستفاد حادي عشر المستأجرون, حيث سيتوافر لهم شقق بأسعار مناسبة؛ لأنه إذا كثر العرض من هذه العمارات التي تحرك الاستثمار الحقيقي, فإنه سينعكس إيجابا على الأسعار, بانخفاضها إلى السعر المعقول،
واستفاد ثاني عشر التاجر, بحصوله على ريع إيجار الشقق.
والسؤال الآن: دفع التاجر مبلغ ثلاثة ملايين ريال, فكم استفاد من هذا المشروع, بهذا المبلغ المتواضع؟ وهكذا في كل مشروع استثماري, عقارياً كان, أو صناعياً, أو تقنياً, أو زراعياً, أو خدمياً, أو تعليميا, هذا هو الاستثمار الذي يخدم البلد, وينفع مواطنيه. وكم نحن فخورون بعديد من شركاتنا الوطنية, ولاسيما تلك التي تجعل مواطني بلدها في صدارة أولوياتها.
وكم نحن فخورون أيضاً ببعض رجال الأعمال الذين جعلوا المواطن أعلى سلم اهتماماتهم, وجعلوا الوطن قبلة استثماراتهم, ومحط برهم ووصلهم, وها هم "اليوم" يجنون ثمار هذا البر والصلة.
ثم يأتي السؤال الثاني: كم استفاد المواطن والبلد والاقتصاد من مئات المليارات التي تدخل سوق الأسهم يوميا, فتذوب كما يذوب الملح في الماء؟ وكم كان يمكن أن تؤثر تلك الأموال التي تآكلت في السوق, واحترقت في باحته, لو استثمرت في بناء شركات, أو مصانع, أو جامعات, فتحقق اكتفاء ذاتياً ينفع البلد ويرتقي به إلى مصاف الدول المتقدمة, ويخفف من لذعة التضخم المستورد, ويحد من البطالة التي يخضر مؤشرها, كلما احمر مؤشر السوق؟
لنقلد البلاد المتقدمة فيما ينفع, ولنترك ما يضر, وبعد ذلك لندع القافلة تسير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي