القرارات التنموية بين معديها والخيارات المطروحة أمام متخذيها
صنع القرارات الحاسمة في شأن الأمة ثم إصدارها للتمشي بها ليس من المهام السهلة عند صناعها والمسؤولين عن تبعاتها، لأنهم يمرون بمراحل وأوقات عصيبة حتى ترى النور ثم من بعد ذلك العمل بمشقة لتنفيذها بنجاح. في العادة يتم البدء باستعراض بداية نشوء المشكلة وتطورها ويحاولون بشتى الوسائل إيجاد مخارج تكون حلولا منظمة يحكمون بها القبضة على العوامل الممكن أن تؤدي إلى تفاقمها، فتؤثر في النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو حتى السياسي وهو ما يسعى الجميع لتلافيه.
من جانب يتم تخير من لديه العلم والخبرة والفكر الرزين لمناقشة الموضوع وطرح الحلول وبدائلها كخيارات تسهل الوصول إلى الخيار الأفضل والأنسب. من جانب آخر يستقرئون مسودة القرار لئلا تكون هناك صياغة أو جملة أو حرف يحول مجمل التوجه أو لا يحقق ما صنع القرار من أجله. بعد أن يتم إعطاء الضوء الأخضر لإعلانه أو إقراره تكون هناك جهة أو جهات مسؤولة عن تنفيذه، ومن ثم متابعة ورصد نتائج تطبيقه. ما يثير التساؤلات بين المستفيدين أو المتلقين هو: هل في مرحلة الإعداد روعي وجود المسؤول والمنفذ المتخصص أم ترك جُله للإداري الذي تغيب عنه الأمور الفنية والمهنية وأهمية هذا الخيار عن ذاك, أو للفني الذي لا يلم بكيفية تنظيم الإجراءات إداريا أو ماليا؟ ثم هل توجد فعلا جهة كلجنة عامة أو لجنة منبثقة من جهة اعتبارية ترصد نتائج التطبيق لتقييم الوضع بعد مرور فترة من الزمن أو استفادة مجموعة من المستخدمين أو المستفيدين؟ وهل يتم تعديل ما يلزم حسبما يستجد أو لم يؤخذ في الحسبان لعموم الفائدة ورفع مستوى التنظيم والتطوير؟
أعتقد أن العواصف الاقتصادية دولية كانت أم محلية علمتنا الكثير في كيفية التعامل مع التغير الجاري في عالمنا الغريب بإصدار قرارات مدروسة أكثر, وإذا كنا أفضل حالا من غيرنا فنحن نريد أن نظل كذلك دائما على الأصعدة كافة, فعند إعداد القرار مثلا نود أن نتفادى: (1) الدوران حول الماضي للبكاء عليه بدلا من الاستفادة مما جرى فيه لصناعة مستقبل أفضل. (2) التخلص من أي ترسبات تؤثر في صناعة القرار مثل الـ "أنا" أو "الخلافات السابقة" ومحاولة عيش الظروف وتقمص الشخصيات كما هي ليكون القرار نابع من ومبني على محاور القضية. (3) تحوير ولي الحقائق لتبرير الوقائع فنطوع الإحصائيات للخروج بنتائج تحقق الأهداف الشخصية بعيدة عن النظرة العامة. (4) الإفراط في الثقة بأنفسنا ومستوى علمنا لدرجة الكمال، فلا يملك غيرنا ما نملك ولا يستطيع تقديم ما نستطيع تقديمه للأمة. (5) تضخيم أو تهويل الأمور أو تقليلها وتصغيرها دون أن نضعها في مكانها الصحيح حتى نستطيع الوصول إلى القرار دون أن يبنى على خطأ فادح في التقدير.
(6) تجنب المغامرة بمصائر الآخرين، فلا يعني كوننا خارج الشريحة أو الفئات المستفيدة أن يحق لنا اقتراح ما نشاء متجاهلين البعد الإنساني في القرار والرحمة بخلق الله. (7) تسطيح الأمور بعدم الإبحار في عمق القضايا والزوايا التي قد تغيب عن الكثير لأننا في حاجة إلى إثارة تساؤلات تفتح آفاقا جديدة وتصل بالمجتمعين إلى حلول شمولية.
في الواقع هناك عديد من الأسباب التي تؤدي بنا إلى إصدار قرارات مثيرة للجدل وغير ناجعة تنفيذيا، ولكن أترك ذلك للمختصين في علم النفس والعلوم الإدارية، فهم أقدر على شمولها والحديث عنها. هدفنا في النهاية أن تتوافق الحلول مع مختلف الحالات لتلبية رغبات أكبر عدد ممكن من الشريحة المستفيدة، مقللين بذلك عدد المتضررين إذا كان هناك ضرر أصلا, ونَسْلم من كثرة الجدل وإن كنا لا نستطيع إلغاءه تماما فقد أنزل الحق سبحانه في كتابه الكريم في سورة الكهف "...وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شيءٍ جَدلا" وهذه صفة أزلية في البشر.
إن القرارات الصادرة التي تعنى بأحوال المجتمع اقتصاديا أو ثقافيا ...إلخ, لم تكن لتصدر إلا بعد مرورها بمراحل وخطوات للتمحيص والتدقيق الذي يؤمن لها النجاح بنسبة عالية جدا, ولكن إذا خرجت لتؤجل الفرح بغموض بنود فيها أو أن تزيد مساحة الأسئلة حولها أو أن تكون درجة الاستفادة منها محدودة قياسا بالحجم الإجمالي، فحتما سيتوقع الكثير وجود لوائح تفسيرية أو قرارات إلحاقية تعضد سابقتها أو تضم شرائح جديدة, ولكن أن يتم الاكتفاء بما صدر فأعتقد لنسبة كبيرة من الحالات ستكون النتائج كما لو لم يصدر القرار!. كما أننا لن نكون متسرعين في الحكم على القرارات، ففينا من تمرس بخبرة سابقة ومن يستخدم الرياضيات لفهم أنماط التغير وتحجيم المشكلة ومن يلجأ إلى مصادر المعلومات المختلفة للاطلاع على تجارب الأمم، وهذا يخول الكثير منا إثبات أنهم ليسوا متسرعين في أحكامهم بعد صدور القرارات. فمثلا قد نلجأ إلى الإسراع في تنفيذ المشاريع، ولكن ما لم توجه فقرات للكوادر التي ستعمل بها وتديرها فإن الزمن والقوى البشرية والقدرات الاقتصادية ستكون قوى مضادة للتغيير بدلا من أن تكون قوى دفع. في مثال آخر قد نلجأ إلى خفض الرسوم في قطاع ما لخفض التكاليف، ولكن ما لم يتزامن ذلك مع حزم أخرى فسيكون النجاح محدودا جدا. كما قد نلجأ أيضا إلى حزمة قرارات لمواجهة غلاء المعيشة، إلا أنها تحتاج إلى مساندتها بإيجاد حلول لمشكلات أخرى. هذه أمثلة لقرارات صنعت من قبل, أما عن المستقبل فحبذا لو أن المُعدِّين للقرارات التنموية يهتمون بتلافي ما لوحظ من فجوات والتركيز على الآليات، فبها يمكن وضع أفضل الخيارات لتمكن متخذيها من تحقيق التوجهات, والله المستعان.