أزمة الرأسمالية .. رب ضارة نافعة
لم يكد يمضي إلا أقل من عقدين من الزمن على سقوط الشيوعية حتى بات خصمها ومنافسها الأقوى الرأسمالية تعاني نتيجة أخطاء وسلبيات أزمة مالية واقتصادية تعصف بها عصفا, ما أثار علامات استفهام حول مدى صلاحيتها لقيادة الاقتصاد العالمي. ومن مفارقاتها أنها قدمت فرصة سانحة لبقايا الاشتراكيين والشيوعيين لرفع أصواتهم تشفيا بالرأسمالية وهي تتعرض لتصدع وتكاد تشرب من الكأس نفسها التي شربتها الشيوعية وأسقطتها صريعة لتصبح من مخلفات الماضي. وما رفع من معنوياتهم لجوء أقطاب الرأسمالية سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا للاستنجاد ببعض الأفكار الاشتراكية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مثل التأميم حين تدخلت الحكومات بشراء أسهم البنوك والشركات المتعثرة بعد أن أدى ترك القطاع الخاص يسرح ويمرح باسم حرية التجارة إلى حدوث هذه الأزمة المالية والاقتصادية, التي هددت فعليا بنيان وكيان الرأسمالية كنظام اقتصادي.
ما تتعرض له الرأسمالية اليوم من أزمة حادة وخطيرة كشفت عيوبها, جاء في لحظة كانت تتباهى وتزهو فيه بما تسميه انتصارها النهائي والحاسم في الصراع الأيديولوجي مع الشيوعية أوائل التسعينيات من القرن الماضي. ومثل هذا التصور المفرط في الوهم هو ما دفع بمفكر مثل فوكامايا للمسارعة بالقول إن سقوط الشيوعية هو نهاية لتاريخ الصراع الإنساني واستقرار العالم على أن النظرية الرأسمالية هي النهج الاقتصادي الأمثل والأصلح, ومن لحظتها والرأسمالية تعيش في وهم ذلك الانتصار المبالغ في إعادته لقدرتها على حسم الصراع وإسقاط الشيوعية.
ما أسقط الشيوعية حقيقة وواقعا ليس تفوق الرأسمالية, صحيح أن الصراع السياسي الذي كان قائما بين الشرق والغرب لعب دورا في إضعاف وإنهاك المعسكر الشرقي بنظامه الشيوعي, إلا أن سقوطها جاء لأسباب داخلية بحتة هي التي أسهمت فعليا في انهيارها ذلك الانهيار شهدناه بدايات التسعينيات حين تفككت المنظومة الشيوعية وانهارت. ولعل أهم عاملين لعبا دورا في ذلك هما العامل السياسي حين قام النظام الشيوعي على إلغاء الحريات السياسية وسيطرة الحزب الواحد, والعامل الاقتصادي حين التزم النهج الاشتراكي بإلغاء دور الفرد وقضى على أي حوافز تدفعه للإنتاج والإبداع بعد دمجه في المجموع قسرا. ونتيجة لذلك برزت أولى نتائج تصدع البناء الشيوعي بافتقاده عنصر الجودة, فإلغاء الحريات من ناحية, وسلب حقوق الفرد حولا النظام الشيوعي إلى نظام جامد غير قابل للتعديل, وفي مثل هذا الوضع حين يتعرض كيان غير مرن لأي هزة أو تغير يتصدع وينهار لعدم قدرته على تحملها, وهذا ما حدث للاتحاد السوفياتي نفسه عندما حاول آخر زعمائه جورباتشوف بغباء أو بقصد إدخال إصلاحات فيما يعرف وقتها بـ "البروستريكا" فأدى إلى تفككه وسقوط النظام الشيوعي وزوال كتلته الشرقية بالصورة التي شاهدناها وتابعناها أوائل تسعينيات القرن الماضي.
على خلفية هذه الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي تسببت فيها ممارسات مالية رأسمالية أفرطت في استغلال حرية التجارة وتركها بلا ضوابط محكمة ومحددة, هل يمكن القول إن الرأسمالية فشلت في إثبات أنها النظام المالي والاقتصادي المثالي وأنها تواجه المصير نفسه الذي آلت إليه الشيوعية؟
الحقيقة التي اعترف بها حتى أباطرة الرأسمالية هي أن هذه الأزمة كشفت عورات الرأسمالية وسلبياتها بعد عقدين من الزمن تسيدت فيه الاقتصاد العالمي بلا منازع, وأنه مثلما كان للشيوعية عيوبها وأخطاؤها التي أدت إلى سقوطها فإن لها, أي الرأسمالية, أيضا عيوبا وأخطاء قادت لنشوء هذه الأزمة التي تداعت عالميا. الفرق بين الشيوعية والرأسمالية أن الأخيرة أقدر على معالجة أخطائها وإصلاح عيوبها من الأولى, وهذا يعود أولا وأخيرا إلى كون الرأسمالية يحتضنها نظام سياسي مرن قائم على الحريات وتعدد الرأي وعدم الجمود الفكري والسياسي الذي كان عليه الحال في النظام الشيوعي, فالرأسمالية بالقطع لن تنتهي إلى ما انتهت إليه الشيوعية, ولكن بشرط مهم وهو أن تهبط من عليائها وتتخلى عن خيلائها, وهذا يتطلب مراجعة عميقة لأسباب تعرضها لهذه الأزمة, وأهم هذه الأسباب الإفراط في فتح الأسواق وترك القطاع الخاص يعمل بلا ضوابط وقواعد تحد من توحشه وشهوته المغرقة في الكسب, الذي تجلى بدءا من حكاية الرهن العقاري الأمريكي مرورا بفتح الباب على مصراعيه للإقراض غير المؤسس على ضوابط مالية صحيحة.
صحيح أن هذه الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي تسببت فيها سياسات مالية غربية لها تداعياتها المؤثرة في العالم الثالث والعالم الأفقر, اللذين تعرضا منذ تسيد الرأسمالية الغربية القرار الاقتصادي العالمي لهيمنة اقتصادية غربية أشبه ما تكون بالاستعمار الاقتصادي من خلال إبراز مهام ودور منظمة التجارة العالمية ومشروعها لعولمة العالم, وهو مشروع يخضع العالم لتكتلات الشركات والمؤسسات الغربية الكبرى, إلا أنها رب ضارة نافعة, فهذه الأزمة ستحد بشكل كبير من استمرار مشروع الهيمنة الاقتصادية الرأسمالية الغربية تحديدا على العالم, وتحد من اندفاعة العولمة المفروضة على العالم باسم حرية التجارة وفتح الأسواق العالمية التي لن يستفيد منها إلا الأقوى. فهل يمكن القول إن هذه الأزمة جاءت في وقتها لتوقف توحشا رأسماليا كان ينذر بخطر سلب ثروات الشعوب المغلوبة على أمرها وهضمها تحت عنوان حرية التجارة العالمية؟