الأزمة المالية الحالية وأزمة مستقبل الطاقة
استطاع العالم، بفضل من الله، أن يحمي نفسه خلال ما يزيد على ستة عقود من اندلاع حرب عالمية ثالثة مدمرة، على الرغم من توافر موادها الأولية في أكثر من مناسبة وسهولة مناولة أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها عدة دول متنافسة. ولكن المجتمع الدولي لم يستطع منع حدوث أخطر أزمة مالية في التاريخ الحديث بدأت تضرب أطنابها في معظم الأوساط والمؤسسات المالية العالمية، تاركة التنبؤ بما ستؤول إليه نتائجها إلى المتشائم والمتفائل على حد سواء، فلا يعلم مدى خطورتها وطول إقامتها إلا الله. ولعله من أعجب العجب أن تبدأ بوادر الأزمة من قلب أكبر وأقوى اقتصاد في العالم، ومن تحت ظل دولة كانت ولا تزال تتزعم الرأسمالية العالمية وتفخر بتقدم نظمها المالية والمصرفية وحرية حركة انتقال الأموال بين الأجهزة المختلفة. وكنا نظن عند بدايتها أن آثارها ستكون محصورة في محيط الولايات المتحدة، حيث منبعها. وبعد مضي وقت قصير أدرك العالم أن ما يحدث في أمريكا من خلل في التعاملات المالية هو بداية طوفان مدمِّر في طريقه إلى بقية المجتمعات الدولية الأخرى، كلُّ حسب قربه ومدى ارتباطه بالاقتصاد الأمريكي. وقد طال بعض شرَِرها الدول التي تصدر النفط، حيث تسببت الأزمة في انخفاضٍ كبير في مستوى الأسعار.
وإذا، لا قدر الله، تعمقت وتفشت الأزمة المالية وتسببت في تعطيل المشاريع والصناعات الحيوية في البلدان الصناعية وأجبرت نسبة كبيرة من الأيدي العاملة على التوقف عن العمل، فتلك كارثة إنسانية غير محمودة العواقب، حمانا الله وإياكم من كل مكروه. ونحن نتمنى، إن شاء الله، أن تكون هذه الأزمة سحابة صيف، تزول مع تكاتف الحكومات والمؤسسات المالية المتضررة، بعد أن نكون قد تعلمنا منها دروساً قيِّمة. والمهم هو أن يدرك المسؤولون مسبباتها ويعملون على تصحيح النظم والقواعد التي أدَّت إلى وقوع الأزمة واستفحالها، حتى لا تتكرر وتنبعث مرة أخرى في غفلة من الزمن.
وهذه الأزمة العالمية والهلع الذي أصاب معظم شعوب العالم خوفاً من أن تطول آثارها مستوى معيشتهم وربما تفقدهم دخلهم، أوجد في نفسي تصوراً مخيفاً وأنا أتخيل ما سيحدث لنا كمجتمع دولي لو استمر العالم يتجاهل مستقبل مصادر الطاقة التي تعتمد في الوقت الحاضر بشكل شبه كلي على المصادر الهيدروكربونية القابلة للنضوب، ونتجاهل الضرورة الملحة للبدء في تطوير واستخدام مصادر الطاقة المتجددة مهما بلغت التكاليف الأولية، إلى جانب ما تبقى من المصادر النفطية. وإن لم نفعل فسنجد أنفسنا بعد مدة زمنية، طالت أم قصرت، في وضع اقتصادي واجتماعي أسوأ بكثير مما نشاهد ملامحه اليوم. فعندما لاحت بوادر الأزمة المالية الحالية، استطاعت الحكومات المعنية أن تستدرك الأمر قبل أن يستفحل وتعم الفوضى، وذلك بضخ كميات هائلة من النقود في خِزانات المؤسسات المتضررة، وإن كانت نقودا من ورق ودون رصيد، إلا أنها هدَّأت الوضع المالي نسبياًّ وأعادت الثقة ولو قليلاً بالمؤسسات المالية، وذلك من أجل أن تسترد الأخيرة أنفاسها وتعود الأمور إلى مجاريها، ولا يعلم ما يخبئ لنا القدر إلا الله، ولكن حدوث أزمة عالمية من نقص في مصادر الطاقة نتيجة خللٍ في حساباتنا وقصور في مخططاتنا ستكون له آثار سلبية لا يعلم مداها إلا الله، ولن يكون من السهل ولا المتيسر التغلب عليها خلال فترة قصيرة، وحينئذٍ تتهيأ عوامل الهلع والفوضى في مجتمعات الأرض. فالعالم المتعطش للطاقة لن يقبل بأقل مما هو بحاجة إليه، ما قد يفتح المجال للقوى العظمى بأن تسيطر وتستولي على أكبر قدر ممكن من مصادر الطاقة التقليدية على حساب المجتمعات الضعيفة والفقيرة، ما دمنا نعيش في عالم يسيطر فيه القوي على الضعيف ولا يهتم الغني بالفقير.
ربما أن الغالبية منا لا يصدِّقون احتمال حدوث نقص في إمدادات الطاقة خلال المستقبل القريب لأسباب أهمها عدم إدراك ما هو حاصل خلال الفترة الأخيرة من قرب تساوي كمية الإنتاج النفطي القصوى مع كمية مجموع الاستهلاك العالمي المتصاعد، وغياب الشفافية المطلوبة حول نسب الإنتاج إلى ما تبقى من الاحتياطي النفطي في كل بلد منتج. وهاتان الظاهرتان حتماً ستعطيان الانطباع بأن إنتاج النفط بكميات كافية لا نهاية له، وهو أمر يخالف الواقع، ونحن لا نود أن ينتظر العالم حتى تقع الكارثة.
حدوث الأزمة المالية الحالية التي عصفت ببعض البنوك والمصارف العالمية الكبيرة والمؤسسات المالية لم يكن بالطبع وليد الصدفة، بل نكاد نجزم أن العوامل المسببة لها كانت معلومة مسبقاً لدى الجميع من حكومات ومؤسسات، والكل كان يرقب الأمور التي كانت تسير في غير الطريق السليم، ولكنهم لا يودون الإفصاح عنها حماية لمصالح شخصية وحزبية ودوافع سياسية، حتى انفجر الوضع، ولم يكن هنالك بدُّ ولا اختيار ولا مفر من إظهارها للعَلَنْ وكان ما كان.
وكذلك حال مصادر الطاقة، فهناك الكثيرون من المتخصصين والمسؤولين الذين يعرفون الوضع الحالي لمصادر الطاقة التي تسيِّر جميع أمور حياتنا، ويدركون أننا مقبلون لا محالة على مرحلة انتقالية قريبة الحدوث، تتطلب منا العمل على إحلال مصادر جديدة لتوليد الطاقة لتعويض النقص المتوقع من المصادر الحالية، ولكنها المصالح الشخصية والحزبية، كما ذكرنا في حالة الأزمة المالية، هي التي تعرقل الاهتمام بمستقبل الطاقة واتخاذ الخطوات المناسبة قبل أن يقع الفأس على الرأس. أضف إلى ذلك أن التخطيط لمشاريع حيوية جديدة بعيدة المدى والإنفاق عليها من أجل تحقيق أهداف تخدم الأجيال القادمة، يندر أن تكون من أولويات أغلب المسؤولين في معظم الدول. لذلك فالأمل ضعيف في أن نجد في هذا العالم مَن يهتم بمستقبل الطاقة، وكل سيترك الموضوع إلى من يأتي بعده، والله المستعان.