الاحتكار وفيروس الفناء
في مقال الأسبوع الماضي تناولت الأزمة المالية الأمريكية، التي يصورها البعض انهياراً لم تكتمل حلقاته بعد, وحاولت في ذلك المقال استعراض ردود الفعل الدولية على ما حدث في أمريكا، لأن ما حدث تمتد آثاره خارج الولايات المتحدة، ما يهدد دولاً كثيرة بالانهيار, والإفلاس, وحاولت أن أثير الاهتمام بشأن دورنا نحن العرب والمسلمين بشأن هذه الأزمة, وما يمكن أن نقدمه للعالم الذي يتطلع إلى ما ينقذه من هذه الويلات التي حدثت بفعل النظام الرأسمالي المتوحش, والقائمين عليه, الذي لا يرحم فقيراً بل يسعى لإفقار الفقير أكثر من فقره, ودعم الغني وزيادة ثروته وملاءته المالية. وهذا ما سار عليه النظام الرأسمالي في أمريكا, وجعله الرؤساء الأمريكيون جزءاً من سياساتهم, وعلى رأس أجندتهم الانتخابية, وهذا ما يفعله المرشح الجمهوري ماكين الذي يعد بتخفيض الضرائب عن الشركات, وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة لأنه يطمع في دعمهم لحملته الانتخابية, والوقوف معه كي يكسب رهان الانتخابات ليصل إلى سدة الحكم, ويتربع عليه في البيت الأبيض, ولو لفترة رئاسية واحدة, لكن يبدو أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، خاصة بعد الأزمة المالية الحالية التي أذاقت الأمريكيين الأمرين وهوت بآمالهم, وجعلتها في مهب الريح تذروها في كل اتجاه. وإذا كان الحزب الجمهوري قد ربط نفسه بالأثرياء, والشركات العملاقة ويقدم لها الخدمات على صورة تخفيض الضرائب, وغيرها من الخدمات فإن واقع الحال كشف ما كان يستتر بفعل قوة الاقتصاد حين كانت الولايات المتحدة بلاداً بكراً تختزن الكثير من الثروات, ومع هذه الأزمة بدأت تتكشف سوءة النظام الرأسمالي, وبدأ المفكرون, والمثقفون, والفلاسفة, والسياسيون المخلصون يفكرون في المشكلة لا من خلال أعراضها، بل من خلال جذورها, والأسباب التي أوجدتها حتى أن الكثير بدأ ينادي بضرورة إعادة النظر في الرأسمالية, وأهمية تناولها من جذورها الفلسفية وآليات عمل هذا النظام, وهذا الطرح لا شك أنه يتفق مع الأثر القائل الحكمة ضالة المؤمن في أي إناء وجدها فهو أولى الناس بها, وهذا شيء يحمد لمن يطرح هذا الطرح, ويأخذ به ويُفعله, ذلك أن تصحيح الخطأ خير من التمادي فيه, وهذا من مزايا الأنظمة السياسية, والاجتماعية المنفتحة, والمرنة التي تكيف نفسها وفق الظروف التي تمر بها, حتى أن بعض هذه الأنظمة لا تصر على أيديولوجيته متى ما اكتشف عيباً أو خللاً في هذه الأيديولوجية. وفي اعتقادي الجازم أن تركيز المال لدى فئة اجتماعية واحدة, وحرمان بقية عموم المجتمع من الثروة الموجودة في الوطن هو الذي يولد المشكلات الاجتماعية, والسياسية من سرقة, وانحراف أخلاقي, وفوضى سياسية. إن الممارسة السابقة للنظام الرأسمالي أدت إلى ما أدت إليه من فوضى في أسواق المال, وعدم ثقة, وما تبني الرئيس بوش لأفكار المحافظين الجدد التي أسس لها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان حيث كان يقول, وماذا لو ازداد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً، وذلك في معرض دفاعه عن سياسة تخفيض الضرائب عن الشركات, وعمالقة المال الذين يرون, ويصرون على أهمية وجود التفاوت الشديد بين فئات المجتمع الناتج عن احتكار المال لدى فئة اجتماعية واحدة. إن النهي القرآني عن الاحتكار يفسر لنا ما حدث, أو قد يحدث مستقبلاً "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم". الأزمات التي تمر بها المجتمعات والدول هي بمثابة جرس إنذار متى ما كان القائمون على الأمر ومن بيدهم السلطة مدركين أهمية وقيمة هذه المنبهات والإشارات, حتى يأخذوا الحيطة والإجراءات اللازمة لمنع حدوث الكارثة, أو تكرارها, لكن التصلب الذهني حول فكرة, أو رأي, الممزوج بالجهل, أو الكبر, والغطرسة هو الذي يحدث الكوارث, والنكبات, وإلا ما معنى أن تتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية هيئة الأمم, وتضرب بقراراتها عرض الحائط, وتشن الحروب في العراق, وأفغانستان, وفي كل مكان بحجة أن مصلحتها تملي عليها هذا الأمر؟! توقفت عند مناداة الرئيس بوش دول العالم لتحمل مسؤولياتها تجاه أزمة المال, وتساءلت: من أين جاءت هذه المسؤولية؟ ومتى وجدت وأمريكا قد جردت الآخرين من مسؤولياتهم في أوطانهم ومجتمعاتهم لعقود طويلة؟! أما عندما حدثت الكارثة المالية في الأسواق الأمريكية أراد الرئيس بوش أن يعولم المشكلة, ويظهرها على أنها مشكلة عالمية في أسبابها, وجذورها. وتأملت في هذا النداء وتساءلت" هل هذا النداء هروب من المشكلة, وعدم اعتراف بقصور النظام في فلسفته وآلياته, أم أنه استمرار للغطرسة الأمريكية التي لا تريد تحمل نتائج ممارساتها, وتحميلها الآخرين لإظهار النظام الرأسمالي بالصورة التي رسموها في أذهان العالم من خلال الدعاية, والأفلام, وجبروت القوة, وصورة الأمة العظيمة؟ إن ما يؤكد نزعة حماية الرأسمالية كنظام دعوة الرئيس بوش الرئيس القادم لأمريكا لإعادة النظر في القوانين والأنظمة المالية، ما يعني تجنب تناول النظام الرأسمالي كفلسفة ونظام حياة. ماذا يريد الأمريكيون من العالم, هل يريدون أن يتكبد الآخرون معاشهم, وصحتهم, ومساكنهم ليستمر الأمريكيون في رفاهيتهم, وعبثهم, وهيمنتهم على العالم؟! هذا ما أعتقده وإلا لماذا تصر الإدارة الأمريكية على رفض تعديل نظام صندوق النقد الدولي, الذي تستثمره الولايات المتحدة لمصلحتها دون غيرها؟ إن ما حدث في أسواق المال الأمريكية, وآثاره التي امتدت إلى المجتمعات الأخرى دليل واضح على خلل لا بد من إصلاحه في النظام الرأسمالي, وما لم يتم هذا الأمر سيستمر الوضع سيئاً، لأن النظام الذي يحمل فيروسات فنائه في داخله لن يستمر صالحاً في بيئته التي نشأ فيها، ومن باب أولى لن يكون مناسباً للآخرين.