هل تقدم الخدمات بناء على أنماط المعيشة أم العكس؟
مع تغير ثقافة المجتمعات، وبالتالي أنماط المعيشة حول العالم، بدأت بعض الدول في تحديث آلية جمع إحصائياتها واستخدامها لتكوين نماذج رياضية تضع على أساسها استراتيجياتها لخمسين عاما قادمة معدلة أيضا ما كان قد تم تبنيه مع بداية هذا القرن. هذه الإحصائيات ستكون كواشف ومؤشرات تعدل أساليب الحياة فيها وتوجه طرق المعيشة بما تكفل لشعوبها كريم العيش ودوام العطاء. لأن ذلك يتطلب ثباتا في أوضاعها الاقتصادية فقد عمدت إلى القيام بالدراسات والأبحاث المكتبية والمعملية والميدانية التي ستستمر أيضا على مدى الخمسين عاما القادمة لضمان استقرار الوضع الاقتصادي، وبالتالي استدامة التنمية فيها. لا شك أن في تلك الدول تساند الشعوب حكوماتها بتنفيذ ما يضمن نجاح التخطيط ابتداء من تقدير حجم الدور الذي تقوم به الدولة ومرورا بالحرص على تحقيق الإنجازات وحمايتها وانتهاء بإبداء الرأي في كيفية تحسين تناول القضايا لوضع كل شاردة وواردة أمام أصحاب الصلاحية، فتعينهم على اتخاذ أفضل القرارات, ولكن كيف يمكن لنا تحقيق ذلك، ونحن نعيش مرحلة انتقالية مهمة وصعبة من حياتنا؟
أعتقد أن الإصلاحات الحالية في المملكة تنظيمية كانت أم فكرية عملية كانت أم نظرية كافية لتكون أكبر دليل على تمتع المملكة بوجود قيادة رشيدة ومجتمع واع فطن يعيشون على أرض مباركة يسعون حثيثا لتسخير القدرات الاقتصادية لنماء الوطن. ما يهمنا هو حاجة المجتمع إلى تعضيد بعضه البعض والاتفاق على انتقاء الأنسب وترك ما لا يناسب مع الاستفادة من كل الأخطاء التي وقعت والحرص على عدم تكرارها والحفاظ على مواردنا في هذا العالم متقلب الأوضاع. البداية بتبني الدراسات المنهجية الحقيقية للتخطيط بعيد المدى لا التفرد بالقرارات المبنية على طروحات عاطفية تعتبر قرارا صائبا في حد ذاته, إلا أن تحقيق ذلك بالأداء المتكامل بين القطاعات الحكومية كأن تتبادل أدوارها على الطاولة وتستفيد من وجهات النظر ميدانيا لا بد أن يكون من الملفات الساخنة. يلي ذلك توجيه الجهود في كثير من القطاعات للعمل (داخليا) بوحدة واحدة بهدف الإفادة من الموارد المتاحة واختزال الإجراءات والاستفادة من القوى العاملة المتوافرة ورفع كفاءة الأجهزة المركزية والطرفية معا بالتنسيق مع إدارات المناطق في مراجعة ما أنجز وما يطالب به المجتمع أن يتحقق.
من ناحية القطاعات الخدمية فلو أمعنا التركيز في أهمها التي تستدعي تكامل أدائها، فسنجد أن وزارات مثل "الصحة والشؤون الاجتماعية والتعليم العالي والتربية والتعليم" وبمؤازرة وزارة التخطيط والاقتصاد الوطني والهيئات المشاركة لها في المسؤوليات يمكن أن يخرجوا استراتيجية صحية وبيئية وتعليمية مركزة الأهداف، التي من أهمها إيجاد الحلول لما يشغل بال فئات المجتمع صحيا وبيئيا واقتصاديا. قد ترى فئة أهمية إحصائيات الوفيات الشاملة للمواليد والرضع والكبار لتكون مؤشرا للحياة المتوقعة لكل فرد بعد الولادة وكاشفا لماهية الوضع الصحي وما هي احتياجاته خلال الخمسين عاما القادمة لتحقيق منفعة أكبر للمجتمع, بينما ترى فئة أخرى الحاجة إلى توضيح الفرق بين تحقيقنا لأن يكون العمر المتوقع عند الولادة 73 عاما ولا يزال حجم التغطية الصحية كميا ونوعيا دون المتوقع على مستوى المملكة. قد تميل فئة أيضا إلى تقصي تأثير القرارات المهمة والمترتب عليها إنفاق مبالغ طائلة لتحديد المكاسب والخسائر والعمل على تعديل ما يلزم سواء من سياسات عامة أو إجراءات مهمة حتى لا يستمر سيرنا دون رصد الحسنات والسيئات وقياس لمدى التحسن أو التدهور الكمي والكيفي على مستوى كافة المناطق، ما قد يجعل مشاريعنا الحالية محل أسئلة تواجهنا بها أجيالنا القادمة وقد لا نستطيع تبرير كثير منها. قد تسوقنا الأفكار لإعادة النظر في آلية تقديم الخدمة الصحية، لأن الاستمرار في بناء المستشفيات ذات التكاليف الباهظة دون اللجوء للإحصاءات المهمة خلال السنوات العشر الماضية التي تثبت مدى الحاجة لها وبأي حجم وفي أي تخصص وفي أي المدن أو المناطق قد يؤدي إلى تحويلها لمشاريع أخرى بعد اكتشاف انخفاض نسبة الإشغال أو إهدار طاقات متخصصة جدا.
من ناحية أخرى قد نفكر في استخدام الإحصائيات المجموعة من مرافق تزامن تشغيلها مع بداية تطبيق خطط الرعاية الصحية الأولية أو المنزلية ومقارنة ذلك بوضع الخدمة تحت غطاء التأمين الصحي الذي يتطلب نمطا من العمل ينفذ بأسلوب متطور جدا. أيضا مع تخير الأفراد أنماط معيشتهم لا بد من قياس مدى تأثير استخدام الفرد للخدمات الصحية حاليا وتغير سلوكياته من حيث الانتقائية أو التوجهية على تقديم الخدمة إجمالا. ثم لا بد من وضع تصور حسابي دقيق لتأثير التغيرات البيئية المختلفة على تقديم الخدمة الصحية وماهية الاحتياجات الآنية والمستقبلية لضمان استمرار تقديمها بكفاية وبمستوى أداء تصاعدي في ظل تنامي أعداد السكان وزيادة شريحة اليافعين بين أفراد المجتمع. يمكن أيضا بناء آلية تأمين أوضاع القوى العاملة المالية والوظيفية بكافة فئاتهم لئلا يكون التخصيص مدعاة للتلاعب بمصائرهم، حيث إن تقييم الرواتب والحوافز والمكافآت الآن لا يستند إلى معادلات تعتبر كاملة وشاملة لكافة العوامل المؤثرة في الإنتاجية. هناك حاجة أيضا إلى دراسة العلاقة بين معايير مستوى المعيشة وصحة المجتمع ومستوى الثقافة الصحية على مستوى كل منطقة على حدة، ولنا في منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة خير مثل، حيث في مواسم العمرة والحج والزيارات تتعدد الأجناس والهويات والعادات والقدرات، ما يجعله اختبارا حقيقيا لتحقيق المناطق ما تصبو إليه وتسعى لإنجازه عبر مجالسها البلدية في الاستفادة من المشاريع التنموية المقدمة لكل منطقة، والله المستعان.