هل بالإمكان أفضل مما كان؟ (1)
على إحدى المجموعات الإلكترونية الناطقة باللغة الإنجليزية للباحثين والخبراء في التمويل الإسلامي جرى نقاش حول إدارة السيولة في المؤسسات المالية الإسلامية.. وبين أخذ ورد من هنا وهناك مرر أحد المصرفيين العاملين في مؤسسة مالية إسلامية رسالة مفادها أن علينا التفريق بين المصرفية الإسلامية والمصارف الإسلامية. فالمصرفية الإسلامية موضوعات يتم تدريسها أو البحث فيها من جانب نظري يصعب إسقاطه إلى حد ما في الواقع العملي التطبيقي.
ولتوضيح هذا الرأي دعونا نتأمل مكونات النظام المالي الذي تعمل به المصارف الإسلامية وهو بلا شك النظام المالي التقليدي نفسه الموجود في جميع دول العالم والذي يشكل في مجمله النظام المالي العالمي.
تقوم فكرة النظام المالي على أساس نقل المدخرات من الجهات ذات الفوائض المالية إلى الجهات ذات الحاجة إلى التمويل. وما بين الجهتين هناك أطراف وسيطة – البنوك إلى حد كبير تلعب هذا الدور – تجمع الفوائض وتعيد توزيعها إلى طالبي التمويل وفقاً لأسس وتطبيقات معينة. وحتى لا يكون الحبل متروكاً على الغارب، توجد هناك هيئات إشرافية وتنظيمية تنظم تلك العملية وتسن التشريعات التي تحكم كل الجهات المشتركة في تلك العمليات.
هذا هو التصور العام للنظام المالي التقليدي الذي تلعب فيه البنوك بشكل رئيس دور الوساطة في نقل المدخرات إلى طالبي التمويل، ومن هنا اشتق نموذج أعمال البنوك التقليدية ولا سيما التجارية أو الشاملة منها.
ولما نشأت البنوك الإسلامية لم تكن تعمل بمعزل عن هذا النظام.. إنها جزء لا يتجزأ منه وتخضع لمعطياته وآلياته على الرغم من أن الدول التي شرعت قوانين خاصة للبنوك الإسلامية قد راعت في بعض الحالات بعضاً من خصوصية العمل المالي الإسلامي كتملك العقارات إلى أجل من أجل صيغة الإجارة المنتهية بالتميلك.
ومن ناحية أخرى، فإن النظام المالي بشكل عام جزء لا يتجزأ من النظام الاقتصادي وهذا أمر يفرض على البنوك الإسلامية تحدياً آخر يتمثل في عملها ضمن نظام مالي تقليدي يعمل ضمن نظام اقتصادي تقليدي فما كان لها من بد إلا أن تتعاطى مع معطياتهما. فأصبحت نظرية التمويل الإسلامي التي من المفترض أن تعمل ضمن النظام الاقتصادي الإسلامي تعمل ضمن نظام مالي تقليدي واقتصاد تقليدي ما أدى إلى انحرافها عن بعض مبادئها وأسسها ومن أهمها المشاركة في الربح والخسارة ونتج عن ذلك اختلاف بين النظرية والتطبيق ما أدى إلى نشوء تيارين فكريين متضادين حول طبيعة ونشاطات وأعمال الصناعة المالية الإسلامية.
لعل البعض يؤيدني أن العديد من السجالات التي رصدت أخيرا في الوسائل الإعلامية حول الصناعة المالية الإسلامية إنما كانت بشكل أو بآخر من نتاج الصراع الفكري بين هذين التيارين.. فهل النظريون على حق؟ وهل التطبيقيون على حق؟ أم أن هناك منطقة رمادية بينهما؟
يبدو أن التيارين على حق ولكن ضمن الظروف التي يعتقد أنه سيطبق التمويل الإسلامي فيها. وهنا نعود لنتساءل: ما دام الأمر قصراً على الصناعة المالية الإسلامية أن تعمل في بيئة تقليدية ما أدى إلى انحرافها عن بعض مبادئها.. فهل بالإمكان أن يكون هناك وضع أفضل مما هي عليه الآن؟ وهل هناك تقصير من جانب التطبيقيين في إسقاط النظرية على أرض الواقع؟ أو أنهم – أي التطبيقيون – أو بعض منهم يغالون في استغلال مسألة "ليس بالإمكان أكثر مما كان" ليلقوا عليها اللوم ويغالوا في التفريط في مبادئ التمويل الإسلامية؟
وفي المقابل، هل آراء وصيحات ونداءات النظريين ستقود حتماً إلى واقع للصناعة المالية الإسلامية "أفضل مما كان"؟ أم أنهم "يعيشون فقط خلف مكاتبهم وبين كتبهم" كما يصفهم التطبيقيون؟
سنحاول تحليل واقع هذا السجال من خلال سلسلة من المقالات نوافيكم بها عبر صفحة "المصرفية الإسلامية" في جريدة "الاقتصادية" في الأسابيع المقبلة بحول الله.
باحث في التمويل الإسلامي، جامعة درم – المملكة المتحدة