هناك ما هو أكثر إلحاحاً وأهمية من العملة الموحدة

[email protected]

قر وزراء المالية في دول مجلس التعاون الخليجي أخيراً اتفاقية إنشاء الاتحاد النقدي والمجلس النقدي والنظام الأساسي تمهيداً لرفعها لقمة قادة دول مجلس التعاون في كانون الأول (ديسمبر) المقبل، وهي خطوة أساسية ضرورية تمهد لإصدار عملة خليجية موحدة، وهي مرحلة التكامل الاقتصادي التي يبدو أن دول المجلس ما زال يحدوها أمل كبير في الوصول إليها حتى لو لم يكن ذلك في 2010.
إلا أن مما يجب إدراكه هو محدودية, إن لم يكن الغياب التام, لأي مكاسب اقتصادية حقيقية من إتمام هذه الخطوة عالية المخاطر، وأن الجهود الحثيثة المبذولة في هذا الشأن تأتي على حساب قضايا أكثر إلحاحاً وأهمية, ومن الواضح أنها تسببت في تأخير قرارات كانت لا تحتمل التأجيل مطلقا كقرار إصلاح أسعار الصرف وحماية اقتصادات دول المجلس من تأثير تراجع سعر صرف الدولار، كما أن استكمالها يتطلب الالتزام بمعايير دقيقة لا يتوقع أن تكون دول المجلس قادرة على التقيد بها في حال تغير الظروف الاقتصادية مستقبلا، وهي تجد الآن صعوبة في الالتزام بها واستيفاء الحد الأدنى من متطلباتها حتى في ظل الظروف الاقتصادية الإيجابية التي تتمتع بها دول المجلس حاليا. فالحديث الجاري حاليا عن استبعاد جزئية الإيجارات من مؤشرات تكاليف المعيشة في دول المجلس, ما يمكن دول المجلس من تحقيق استيفاء معيار التضخم، الذي يشترط ألا تتجاوز معدلات التضخم في أي دولة 2 في المائة فوق متوسط معدلات التضخم المرجحة في دول المجلس، مؤشر خطير على ما يمكن أن تجد دول المجلس نفسها مضطرة للتنازل عنه من معايير مستقبلا في سعيها للإبقاء الشكلي على تقيدها بمتطلبات ومعايير العملة الموحدة ما سيعرض استقرار هذه العملة لخطر كبير، فهل ستقوم دول المجلس، على سبيل المثال، عندما لا تستطيع الوفاء بمعياري عجز الميزانية والدين العام أن تعدلهما ليناسبا الوضع المالي لبعض دول المجلس؟ اقتراح تعديل معيار التضخم حاليا يؤكد أن ذلك يمكن أن يحدث.
الحقيقة أن تبني عملة موحدة لدول المجلس ليست مهمة ولا تؤثر كثيراً في مسيرة التكامل الخليجي ومختلفة جذرياً عن خطوات التكامل الاقتصادي السابقة كونها تحمل آثارا سلبية خطيرة تفوق كثيراً أي مكاسب يمكن تحقيقها منها، يضاف إلى كل ذلك أنها ليست ضرورية أصلا لقيام اتحاد نقدي بين دول مجلس التعاون. فالاتحاد النقدي بين مجموعة من الدول لا يعني بالضرورة امتلاكها عملة موحدة، ويمكن أن يكون هذا الاتحاد قائما بمجرد أن يكفل لعملاتها المحلية حرية التحويل والحركة والتداول دون قيد أو شرط, وأن تكون هذه العملات مرتبطة معاً بأسعار صرف مثبتة. ويمتاز هذا الخيار على خيار قيام اتحاد نقدي بتبني عملة موحدة أنه لا يتطلب الالتزام من دول المجموعة بأي معايير مقيدة، وهي فقط ملزمة بإبقاء سعر صرف عملتها ثابتا أمام العملات الأخرى في الاتحاد، ولكل دولة الحرية التامة في إدارة اقتصادها بالطريقة التي تراها مناسبة، فلا قيود على معدلات التضخم أو الفائدة أو العجز والدين العام، ولا يؤثر أي من ذلك في استقرار الاتحاد النقدي، طالما بقيت كل دولة مستعدة وقادرة على الدفاع عن سعر صرف عملتها عند سعر الصرف المتفق عليه بين دول الاتحاد النقدي.
وكل ما تحتاج إليه دول المجلس لتحقيق هذا الخيار هو الاتفاق على مثبت مشترك، كأن تتفق دول المجلس على تثبيت جميع عملاتها أمام الدولار أو أمام سلة عملات, ما يضمن ثبات سعر صرف عملاتها بينيا حتى لو تغير سعر صرفها أمام العملات الأخرى، وألا تقوم أي دولة بتغيير سعر صرف عملتها بصورة منفردة وتلتزم بأن يكون ذلك بالتزامن وبالنسبة نفسها لعملات دول مجموعة الاتحاد النقدي كافة. ما يعني أن دول مجلس التعاون كانت تتمتع فعلاَ باتحاد نقدي حتى أيار (مايو) 2007، أي حتى قيام الكويت بإعادة ربط الدينار الكويتي بسلة عملات بدلاً من ربطه بالدولار كغيرها من دول المجلس، ويمكن أن يتحقق هذا الاتحاد النقدي من جديد من خلال اتفاق دول المجلس مرة أخرى على مثبت مشترك.
إن عدم اكتفاء دول المجلس بهذا الخيار العملي سهل التطبيق وتبنيها الخيار الأصعب الذي يتطلب التزامها بمعايير يصعب التقيد بها مع تغير الظروف الاقتصادية ويتسبب في إضعاف قدرة دول المجلس على إدارة اقتصاداتها بما يخدم مصالحها الحقيقية أمر غير مبرر خاصة في ظل محدودية بل حتى غياب المكاسب الاقتصادية من ذلك، وهناك قضايا أشد إلحاحاً وأكثر أهمية تحتاج إلى كل جهد ممكن لضمان خروج دول المجلس بأقل ضرر ممكن من أزمة المال العالمية الحالية وما سيترتب عليها من تغيرات هيكلية أساسية في أسواق النقد العالمية، لا أن نخطئ تماما في قراءة هذا الواقع بالقول "إن دول المنطقة نجحت في مقاومة الدعوات المطالبة بإصلاح نظام ربط العملة بالدولار أو تغيير سعر الصرف"، فالأسوأ من هذه الأزمة لم نره بعد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي