حرية الأسواق وأزمة القطاع المالي الأمريكي
بعد الهزات العنيفة والتداعيات الكبيرة التي طالت القطاع المالي الأمريكي وتعدته إلى دول أخرى جراء أزمة الرهن العقاري، لن يكون نموذج قطاع البنوك الاستثمارية الأمريكية هو الوحيد الذي سيتغير بشكل كبير، بل إن قناعات اقتصادية سادت لفترة طويلة ستخضع لمراجعة جذرية وشاملة، حيث بدأت الأدبيات الاقتصادية والمالية بتحليل المشكلة ومحاولة تلمس مواقع الخلل، وطرح الحلول والبدائل النظرية التي قد تبتعد كثيراً عن نماذج الإدارة الاقتصادية التقليدية التي سادت في العقدين الماضيين. فالأزمة الحالية وغير المسبوقة التي تهدد آفاق نمو الاقتصاد العالمي أدت إلى استنفار سياسي واقتصادي في واشنطن تمثل في تدخل وزارة المالية الأمريكية والاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) لضمان تقليل الخسائر وتفادي الانهيارات التسلسلية في القطاع المالي من خلال تأميم مؤسستي الرهون العقارية "فاني ماي" و"فريدي ماك"، وتسهيل مفاوضات الاندماجات والحيازة للمؤسسات المالية المتعثرة بجانب الشروع في طلب موافقة مجلس النواب على خطة إغاثة حكومية للقطاع المالي تبلغ 700 مليار دولار. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي وبعد تأميم بنك نورذرن روك في وقت سابق من هذا العام، أممت المملكة المتحدة بنك برادفورد آند بنجلي، الذي يُعد أكبر مقرض عقاري وشرعت في بيع 197 من فروعه إلى بنك سانتاندر الإسباني.
هذا التدخل الحكومي المبكر في كل من أمريكا وبريطانيا لتفادي الانهيارات التسلسلية التي قد تطال القطاع المالي وتنتقل إلى الاقتصاد الحقيقي تعيد إلى الأذهان أطروحات جون مينارد كينز الذي تنسب إليه النظرية الكينزية التي تدعو إلى تدخل الدولة لتحقيق استقرار القطاع الخاص، وتفادي حالات الركود والتحكم بحالات النمو السريع باستخدام أدوات السياستين المالية والنقدية. ومن زاوية أخرى، في الإمكان النظر إلى الإجراءات الأمريكية والبريطانية الحالية للتعامل مع الأزمة المالية على أنها نقض للأطروحات الثاتشرية والريجنية (نسبة إلى رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت ثاتشر والرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان)، التي تعطي الحرية إلى قوى السوق لإعادة تنظيم المشهد الاقتصادي وقيادته عن طريق تقليل التنظيمات والقيود Deregulation، حيث إن الحزب الجمهوري الأمريكي تمسك بأيديولوجية تقليل الدور الحكومي والجهات التنظيمية لصالح قوى السوق لقناعة بقدرتها على التصحيح الذاتي. وقد تكون أزمة القطاع المالي الحالية المسمار الأخير في نعش الحرية المطلقة لقوى السوق كما يتضح من تصريحات وأطروحات المنظرين الاقتصاديين وصناع القرار الاقتصادي والمالي في بريطانيا وأمريكا. ففي يوم الجمعة 26/9/2008م، أطلق كريستوفر كوكس رئيس هيئة السوق المالية الأمريكية، والذي يعد من المؤيدين بشدة لأيديولوجية ريجان الاقتصادية حتى بداية الأزمة الحالية تصريحاً بأن الأشهر الستة الماضية أثبتت بوضوح أن التنظيم الطوعي من قبل قوى السوق واللاعبين الأساسيين فيها لا يعمل.
هذا التصريح الذي ينزع قداسة حرية قوى السوق في التوظيف الأمثل للموارد، التصحيح الذاتي، والتنظيم الطوعي يصب في أطروحة فشل السوق والتي تقول إن التوظيف الأمثل للموارد قد لا يكون الأمثل بالاعتماد على الحرية المطلقة لقوى السوق، وإن تحقيق الأهداف الاقتصادية الفردية في حالة فشل السوق لا يقود إلى تحقيق المنفعة الاجتماعية. هذه الأطروحة الاقتصادية، أطروحة فشل السوق، تحضر بقوة في الأزمة المالية الراهنة بالنظر إلى الانتقادات التي تكبر ككرة الثلج تجاه مصرفيي البنوك الاستثمارية وإقدامهم على أخذ معدلات مخاطرة مرتفعة طمعاً في مكافآت أداء أعلى أدت إلى الأزمة واحتمال استخدام أموال دافعي الضرائب الذين يمثلون المجتمع لتصحيح أخطاء المصرفيين التي حركها الطمع والبعد عن أخلاقيات المهنة وحسابات المخاطر.
وأخيراً، من الصعوبة تقدير وقت انتهاء أزمة القطاع المالي وتداعياتها في هذا الوقت المبكر، خصوصاً أن كل يوم يمر يحمل مفاجآت ومعدلات تذبذب في الأسواق المالية تزيد من حالة عدم التأكد وترفع من درجات الحيطة في مجمل عمليات الإقراض والاستثمار التي تؤدي بدورها إلى التأثير سلباً في القطاع المالي نفسه وتنذر بانتقال الأزمة إلى الاقتصاد الحقيقي. لذا، لن تتم معرفة التغيرات التي ستطول المدارس الفكرية الاقتصادية ودور قوى السوق مقابل دور التنظيمات والرقابة قبل أن يتم جرد المصابين والجرحى من المؤسسات المالية والأدوات والنماذج الاستثمارية وقبل أن تنال الأزمة نصيبها من البحث والتحليل الذي لن يأخذ مكاناً قبل هدوء العاصفة.