بولسون يضع آلية السوق تحت الاختبار
كان الفشل الكبير الذي منيت به خطة بولسون الطارئة لإصلاح النظام المالي مفاجأة بكل المقاييس لكل المراقبين. إذ إن الحديث دار عن التوصل إلى اتفاق يوم الأحد الماضي، وأنه ينتظر التصويت عليه من قبل الكونجرس. الفشل هذه المرة لم يكن سببه الديمقراطيون ولكنه بسبب معارضة كبيرة من قبل الجمهوريين. والسبب في ذلك أن الخطة طرحت تقييداً لمكافآت المديرين التنفيذيين للمؤسسات المالية المستفيدة من الدعم الحكومي، كما أنها تقدم الدعم على شكل متدرج وتحت إشراف من الكونجرس. وتمثل هذه الخطة - خطة بولسون - منعطفا كبيرا في التاريخ الاقتصادي الأمريكي والعالمي على حد سواء. إذ إنها تمثل صراعاً مريراً للمحافظة على مبدأ حرية السوق الذي بدأ يتهاوى في معقل داره وبدون أي تدخل (خارجي). بل إن حرية السوق (على الطريقة الأمريكية) هي التي تدمر نفسها حالياً، حيث تتهاوى أحجار الدومينوز (المصرفية) يوماً بعد يوم. فبعد انهيار "ليمان براذرز" الذي مثل الشرارة الأولى في المشهد الحالي، اختفى "ميرل لينش" وانهار "واشنطن ميوتشول"، وتدارك "واكوفيا" الأمر بالاندماج مع "سيتي بانك" ثم ظهرت العدوى في مكان آخر من العالم هو أوروبا، حيث ينهار كل من بنك فورتيز البلجيكي ومؤسسة التمويل العقاري برادفورد آند بينجلي.
وعودة مرة أخرى إلى خطة بولسون التي تنطوي على منهجين محتملين لتطبيقها أحدهما يفضل الاعتماد على آلية السوق والآخر يفضل التدخل الحكومي المباشر بامتلاك المؤسسات المالية المتعثرة ومحاولة إصلاحها. المنهج الأول الذي يدعمه بولسون القادم من رحم الوول ستريت يتضمن كما ذكرت الاعتماد على آلية السوق لشراء ما قيمته 700 مليار دولار من سندات الرهن العقاري المجمدة في السوق بسبب عدم وجود مشتر لها. وبهذه الطريقة يأمل بولسون في إذابة ذلك الجمود وتحريك سوق هذه الأصول مما سينعش قطاع الائتمان المصرفي، وسيمكن المؤسسات المالية التي تحوز هذه الأصول من بيعها في السوق، وبالتالي إعادة الحياة لسوق هذه السندات مرة أخرى. لكن المعارضين لهذه الطريقة يرون أن هناك نتائج سلبية محتملة لهذه الخطة وهو عدم الكفاءة في صرف تلك الأموال. حيث إن المستفيد الأكبر من ذلك هي المؤسسات المالية ذات الخسائر الأكبر (غير الكفئة) والتي توشك على الانهيار. ما يعني أن هذه الأموال ستصرف حسب آلية السوق على مؤسسات مالية تصارع للبقاء في السوق، ما سيحد من فاعلية الخطة في ترميم النظام المالي، بينما من الأجدى التركيز على دعم المؤسسات المالية التي تتميز بوضع ائتماني أقوى لإعادة الانتعاش لقطاع الائتمان المصرفي.
المنهج الآخر هو التركيز على التملك الحكومي المباشر لنسب في المؤسسات المالية مما يعني محاولة الاختيار والمفاضلة بين المؤسسات المالية التي سترغب الحكومة التملك بها وهو الأمر الذي لا يفضله داعمي مبدأ آلية السوق. وعلى هذا الأساس تقوم الحكومة بإقفال أو دمج المؤسسات المالية الضعيفة مع مؤسسات أخرى أقوى منها وبالتالي تحقق قيمة مضافة لأموال دافعي الضرائب على المدى الطويل. رئيس الاحتياطي الفيدرالي يعارض هذه الخطة بحكم أنها تمثل منهجاً عقابياً سيحد من مشاركة المؤسسات المالية ، لكن أحد العاملين في البنوك الاستثمارية يشبه ذلك بالغريق الذي يجادل بشأن شكل سترة النجاة التي سيتم رميها له، إذ لا خيار أمام تلك المؤسسات إلا المشاركة أو الغرق. وتجربة السويد في التعامل مع أزمة المصارف عام 1990 تعد إحدى التجارب الناجحة للملكية الحكومية المباشرة (والمؤقتة)، وكانت عاملاً أساسياً في عودة الاستقرار للنظام المالي. إذ قامت الدولة بحيازة مؤقتة لكثير من المؤسسات المالية المنهارة، ما ساعد على تطمين العامة بشأن مدخراتهم ومن ثم تم إعادة ترميم النظام المالي وإعادة الانتعاش إليه مرة أخرى.
وعلى الرغم من إيماني بمبدأ آلية السوق وترك تحديد الأسعار لآلية العرض والطلب، إلا أن بعض الأزمات تتطلب التخلي عن هذا المبدأ - ولو بشكل مؤقت - لحل أزمة طارئة كالأزمة التي تشهدها الأسواق المالية حالياً. حيث إن البعد الزمني يلعب دوراً كبيراً في تعميق الأزمات المالية وحينها سيكون الاعتماد على آلية السوق مكلفاً جداً، وإن كان من حيث المبدأ الاقتصادي صحيحاً. حيث سيترتب تكاليف كبيرة على الاقتصاد من جانبين كليهما ذي بعد زمني: الأول التكاليف المترتبة على الانتظار لحين تصحيح الوضع، والآخر من حيث تسارع الأحداث زمنياً - كما حدث في أزمة انهيار شباط (فبراير) عام 2006 - وتفاقمها بما قد ينطوي أيضاً على تكاليف كبيرة اقتصاديا تتطلب التدخل الحكومي المباشر للحد منها. لذلك فبدلاً من انتظار نتائج آلية السوق التي يدعمها بولسون، فإنه قد يكون من الأفضل اللجوء مباشرة إلى التدخل الحكومي المباشر لحل الأزمة من جذورها.