الخطوة الصينية
فتحت الصين فيما يبدو صفحة جديدة يمكن أن تؤسس لنقلة نوعية في وجودها على الساحة النفطية. فمنذ أن حلت محل اليابان كثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة، والخطوات التي تقوم بها بكين توضع تحت المجهر، وآخر هذه الخطوات سعيها إلى الحصول على حصص من خلال شراء أسهم في كبريات الشركات النفطية العالمية.
حتى الآن، وبحسب المعلن، فقد بدأت ومنذ نهاية العام الماضي في شراء أسهم شركة توتال الفرنسية، التي يعتقد أنها وصلت إلى 1.5 في المائة من إجمالي أسهم الشركة وبقيمة مليار ونصف المليار دولار، ولو أنه لم يوضح رسميا حجم الحصة التي اشترتها الصين من الشركة، لكن سيتم الإعلان إذا تجاوزت الحصة 5 في المائة كما تطالب القوانين.
الشركة الأخرى التي حصل فيها الصينيون على حصص هي "بي. بي" بتكلفة بلغت ملياري دولار، وذلك من خلال سلسلة عمليات شراء للأسهم امتدت على مدى ستة أشهر.
في البداية كان التركيز على النشاط الصيني من جانبه الاستثماري، خاصة والصين التي تتمتع بفائض كبير من السيولة المالية أخذت تتحرك وعبر صندوقها الاستثماري السيادي الذي يبلغ رأسماله 200 مليار دولار لحيازة بعض الأصول في الشركات الغربية الكبرى، خاصة المالية منها، مثل مورجان ستانلي ومجموعة بلاكستون التي يمكن أن تساعدها في مساعيها الاستثمارية.
وتعتبر هذه الخطوات في الجانب النفطي مهمة كونها تعد أسلوبا مغايرا لما سعت إليه بكين من قبل من خلال محاولتها السيطرة على شركة أنوكال النفطية الأمريكية، وهي المحاولة التي تعثرت بسبب الاعتراضات السياسية التي تصدرها الكونجرس ووجدت الإدارة الأمريكية أنها يمكن أن تصبح في موقف صعب، فهي من ناحية تتبنى سياسة حرية التجارة وتحرك رأس المال، لكنه عندما وصل الأمر إلى عقر دارها برزت الدعاوى القومية الوطنية كأي دولة ممن دول العالم الثالث.
بسبب ثقلها السكاني وجوعها إلى الموارد الطبيعية أصبحت الصين لاعبا رئيسا على المسرح له تأثيره في إحداث شيء من التأثير في علاقات الدول الغربية وشركاتها مع دول العالم الثالث. وتلخص حالة السودان هذا الوضع، فالشركات الغربية الرئيسة استنكفت عن الدخول في السودان والاستثمار في صناعته النفطية الصاعدة، وحتى تلك حاولت مثل تاليسمان الكندية أو لندين السويدية وجدت نفسها تحت ضغوط هائلة للخروج أو تقليص وجودها بسبب الأوضاع السياسية في السودان. لكن الصين واصلت وجودها، وشاركتها في هذا التوجه بتروناس الماليزية وشركة النفط الوطنية الهندية، الأمر الذي وفر فرصة للسودان التمتع بعضوية نادي النفط.
والسودان ليس وحده، وإنما اتسع الوجود الصيني عبر الدول الإفريقية والآسيوية وفي أمريكا الجنوبية عارضا شروطا استثمارية سخية، وعدم تدخل في الشؤون الداخلية للدول التي تعمل فيها، كما أنها وفرت مصدرا للسلاح لمن يحتاج إليه وسندا سياسيا في المحافل الدولية.
ولم يقتصر التعامل الصيني على مجموعة من دول العالم الثالث المحتاجة إلى سند دولي، فبكين وجدت طريقها إلى كندا، الجار الشمالي للولايات المتحدة وأحد مجموعة الدول السبع الصناعية الرئيسة في العالم. ففي نهاية الأمر تبقى الصين مدفوعة بالحاجة إلى تلبية احتياجاتها المتصاعدة من النفط والغاز.
من الجانب الآخر، فإن الشركات التي أصبحت مقصد بكين للحصول على أسهم فيها تبدو سعيدة إلى حد ما بهذا التوجه، فهي في النهاية شركات عامة يهمها أن تكون أسهمها موضع طلب ورغبة من المستثمرين.
لكن، مع أنه من المبكر الحديث عن تأثير الصين في سياسات واستراتيجيات هذه الشركات، إلا أن الخطوات التي تمت حتى الآن تفتح المجال أمام هذه الفرضية خاصة إذا وضع في الاعتبار أن الشركات النفطية الكبرى مواجهة بمتاعب في الوصول إلى أماكن المخزونات النفطية الكبرى، والصين أثبتت خلال السنوات القليلة الماضية قدرتها على الوصول إلى أماكن هذه الاحتياطيات. وكون لديها حصصا، خاصة إذا زاد حجم هذه الحصص، سيجعلها في وضع أفضل للتأثير في سياسات هذه الشركات مستقبلا، الأمر الذي حدث سيشكل نقلة في مسيرة الصناعة النفطية العالمية.
الشركات ظلت هي المحرك الأساسي للصناعة النفطية العالمية، وأصبحت ما أطلق عليها الشقيقات السبع المرجع في هذا الصدد من خلال هيمنتها من فوهة البئر إلى المستهلك، لكن مع فقدانها امتيازاتها خاصة في البلدان المنتجة، أصبحت قدراتها الاستثمارية والتقنية هي ميزتها الرئيسة، لكنها تحتاج إلى مجالات للعمل فيها خاصة بعد بروز منافسين من الشركات الوطنية.
ومع أن نشاط هذه الشركات ظل عالميا، إلا أنها ظلت تعكس المصالح الغربية، والسؤال إذا كان دخول الصين مستثمرا فيها سيسهم في تغيير تلك الملامح وتجعلها تضع في الاعتبار مصالح واهتمامات المساهمين بمن فيهم الصين؟ وهذه لها حساباتها واهتماماتها التي تختلف عن أي مساهم عادي بغض النظر عن حجم أسهمه.