متى نصوم رمضان..؟!!
كلنا نجيد الصيام عن الأكل والشراب, ونحوهما من المباحات, وأحياناً يبلغ الورع حدا, يتحرج لأجله الصائم عن شم البخور المتطاير في الهواء, أو عن دخول ذرات الغبار في فمه؛ لئلا يفسد صيامه, أو يتسلل إليه ما ينقص ثوابه..!! وفي الوقت ذاته, نجد هذا الصائم الورع.. يتناول المحرمات ويلغ في بعض الموبقات بحواسه الخمس, دون أن يرفع بذلك رأسا..!! وهي معادلة غريبة, وازدواجية مقيتة, تحمل على البكاء والضحك في آن..! وتذكرنا بذاك الذي يسأل عن دم البعوض, ولا يتورع عن دم الحسين..!!
ولهذا ينبغي أن نتأمل في حالنا سويا, وأن نقف مع أنفسنا وقفة مصارحة, ودقيقة مكاشفة, بعيداً عن الاستعلاء بالنفس, والزهو بالذات.
لنتساءل جميعا: هل صمنا عن أكل لقمة واحدة من طعام حلال في نهار الصيام, وأفطرنا على ملايين من المال الحرام في سائر شهور العام, أم لا؟
هل صمنا عن احتكار ما تمس إليه حاجة الناس؟ وهل تبنا إلى الله عز وجل من حبس الحديد في الاستراحات, وهل ندمنا على كنز الدقيق في المخازن والثلاجات, وإخفائهما عن الأنظار؛ كي تغلو الأسعار!! أم نُعدُّ بعد رمضان لمفاجآت أخرى, تحقق مكاسب من جيوب الناس؟
هل صمنا عن خداع المستهلكين ببيع السلع المغشوشة, وهل أمسكنا عن ترويج السلع عبر التخفيضات الكاذبة؟
هل صمنا عن أكل الرشوة, أو ما نسميها عبثاً بـ: "إكرامية.. دهن سير.. بخشيش.. حلاوة.. هدية؟" وهل أمسكنا عن العبث بمظاريف المناقصات والمزايدات, وعن تسريب ما تخفيه تلك المظاريف, كما نمسك عن الشراب والطعام في نهار الصيام؟
هل صمنا عن أكل المال العام, وما نتأول أو نحتال على أخذه باسم المواطنة, وهل أمسكنا عن سرقة أموال الدولة بأي اسم آخر, من أكبر مسؤول إلى أصغر موظف؟
هل صمنا عن أكل الربا, أو ما نسميه زورا بالفائدة؟ وهل أمسكنا عن إغراق المجتمع بالديون المتراكمة, أم نريد أن يحل بنا ما حل بغيرنا حتى يصبح مجتمعنا - بأفراده وشركاته - كومة مفاليس!! كما انفرط عقد شركاتهم الكبرى, وأعلنت إفلاسها, واحدة بعد أخرى!!
هل صمنا عن أكل المال بالباطل, وهل أمسكنا عن التحايل على مال الزوجة والقريب, وعن السطو على مال الصاحب والغريب؟
هل صمنا عن الوقيعة في العلماء الربانيين, وعن تتبع زلاتهم, وتلقط هفواتهم, أم أفطرنا على ما يغضب الرحمن, ويفرح الشيطان؟!!
هل صمنا عن سيئ الأخلاق وذميم الصفات، وعودنا النفس على الصبر عن أخطاء الغير بلفظ: "اللهم إني صائم", أم أفطرنا على عبارات السباب, وتسحرنا على ألفاظ الشتائم؟
هل صمنا عن العقوق والقطيعة؟ وهل أمسكنا عن الحقد والحسد والخديعة, أم تلذذنا بالعداوة والبغضاء, وتنعمنا بالضغينة؟
هل صمنا عن الكبر والترفع على الخلق, أم أفطرنا عليها وعلى الزهو والخيلاء؟
هل صمنا عن العبوس والتجهم, أم أصبحنا على تقطيب الجبين, وشموخ الأنف, وأمسينا على الترفع بالمال والجاه والنسب؟
هل صمنا عن مشاهدة المنكرات؟
هل صمنا عن مشاهدة المسلسلات الماجنة, والفضائيات العابثة بالأخلاق والسلوك, والمنتجة للفساد والعري؟ أم أسهمنا في بثها ونشرها, وملأنا أرصدتنا من عوائدها وأرباحها؟
هل صمنا عن الاستماع للحرام؟
هل صمنا عن الاستماع الغيبة والتلهي بها؟ وهل صمنا عن الاستماع للمعازف والموسيقى.. أم أفطرنا على الاستماع لإيقاعاتها, وتسحرنا على نغماتها؟
هل صمنا عن ذلك وغيرها من المحرمات, أم لا؟
إن صمنا عنها فنحن الصائمون, وإلا فنحن المفطرون, وفي الحديث الصحيح: (من لم يدع قول الزور, والعمل به, والجهل, فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه!!) فإن أفطرنا على هذه المحرمات, وتسحرنا على هذه الموبقات, فليس لله حاجة أن ندع طعامنا وشرابنا في شهر الصوم.
لقد شرع الله تعالى صيام هذا الشهر الكريم؛ ليكون بمثابة الدورة الإيمانية, والتي يتلقى فيها المؤمن العديد من دروس العبادة والسلوك والأخلاق, ليرجع المؤمن بعد شهر كامل من هذه الدورة التدريبية, وهو في أعلى مراتب الإيمان والعبادة والأخلاق والسلوك, كما ألمح إليه الخالق عز وجل في قوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم "لعلكم تتقون") والتقوى: اسم شامل, يجمع كل صفات الخير والبر والإحسان, وبهذا يكون الإسلام بدورته التدريبية في شهر الصوم قد سبق عصرنا الحاضر والحضارة المعاصرة إلى فكرة هذه الدورات التدريبية, التي أصبحت اليوم تلعب دوراً رئيسا في الرقي بمستوى الأفراد في المجالات المختلفة"في الاقتصاد, والإدارة, والسلوك".
فاللهم اجعل هذا الشهر الكريم شاهدا لنا, لا علينا, ورحماك يا الله, وعفوك ربي, فنحن المذنبون المقصرون, نحن الممسكون عما أحل الله, المفطرون على ما حرم الله!! فا للهم اغفر ذنوبنا, وتجاوز عنا سيئاتنا, وتوفنا مع الأبرار, آمين.. آمين.