التطوير يقتضي بذل الدنانير
درجت مجموعة البركة المصرفية منذ ثلاثة عقود على عقد ندوة علمية في شهر رمضان من كل عام تبحث في قضايا الاقتصاد الإسلامي. وقد أسهمت هذه الندوات بأبحاثها ومناقشاتها، على مدار هذه السنوات الطوال، في تطوير مسيرة العمل المصرفي الإسلامي، من خلال رعاية ودعم بحوث الفقهاء والعلماء المتخصصين في هذا المجال.
وأسعد في كل عام بتلبية دعوة الشيخ صالح كامل للمشاركة في هذه الندوات. وفي الندوة التاسعة والعشرين التي التأمت يومي السبت والأحد الماضيين في جدة، نوقشت مسألتان مستحدثتان دقيقتان، تبينان مبلغ التطور ودرجة العمق ومستوى التعقيد sophistication التي وصلت إليها بحوث الصيرفة الإسلامية. المسألة الأولى كانت عن ضوابط عمل المصارف الإسلامية في السلع الدولية. والثانية عن مدى شرعية عقد الخيار التبعي سواء لشراء أسهم وأصول، أو في حالة الثمن الذي مصدره الوعد بالتمليك ضمن عقد التأجير. وقد أتطرق إليهما في مقالات قادمة.
وقد سرني أن تضمنت ندوة هذا العام مراجعات للفتاوى الصادرة عن الندوات السابقة شارك فيها المشايخ ابن منيع، والسلامي، وسواهما للتحقيق من أن ما صدر عنها فيما مضى مؤقتا بسبب التدرج في التأصيل والأخذ بالرخص لم تعد له مبررات. مع العلم أن الملاحظات على هذه الفتاوى لا تصل إلى مرتبة تحليل حرام أو تحريم مباح، وإنما هي شبهات من الأولى تركها براءة للذمة.
خلال العقود الثلاثة الماضية، أدى النمو السريع في الطلب على خدمات الصيرفة الإسلامية، إلي زيادة عدد المصارف الإسلامية واتساع قاعدة العمل بهذه الخدمات. بيد أن هذا النمو فاق جهود ضبط أسلوب تقديم هذه الخدمات، الأمر الذي دعا عددا من الهيئات المجمعية والشخصيات المعنية للدعوة للقيام بمراجعات لتصحيح المسيرة، وضبط التطبيقات المصرفية المخالفة للقواعد الشرعية، التي ربما تعجلت بعض المصارف في تطبيقها في ظل قوة المنافسة من قبل المصارف التقليدية، أو بدافع الرغبة في تحقيق الأرباح وتغطية التكاليف. لكن هذا لا يعفينا ولا يعفيها من ضرورة البحث عن البدائل الشرعية الصحيحة المتوافقة مع مقاصد الشرع في استخدام المال.
وعلى الرغم من التطور الكبير الذي وصلت إليه المصرفية الإسلامية خلال العقود الثلاثة المنصرمة - ومع إدراكنا وتقديرنا لحجم التحديات التي ما زالت هذه المصارف تواجهها، مثل افتقار الصناعة لسوق مالي إسلامي متطور يوفر أدوات قصيرة وطويلة الأجل لاستثمار الفوائض المالية، وضعف الدعم التشريعي والرقابي من قبل السلطات النقدية، وتواضع التعاون البيني بين المصارف الإسلامية ذاتها- إلا أن المصارف بحاجة ماسة لتفعيل العمل المؤسسي في مجال الرقابة الشرعية الخارجية على جميع عملياتها المصرفية. وهي مدعوة أيضا لتقدير أن السبيل الوحيد لوصول هذه الصناعة إلى بر الأمان الشرعي، هو من خلال دعمها المنتظم للأبحاث العلمية الموجهة لتطوير منتجات الصيرفة الإسلامية، كما هو شأن المؤسسات الرائدة في المجتمعات الحية. ولعل هذا هو بالضبط ما يميز جهود مجموعة البركة المصرفية، حيث الرعاية المستمرة غير المنقطعة والبذل بسخاء في هذا المجال. لكن اليد الواحدة لا تصفق، وحبذا لو التزمت جملة المصارف الإسلامية من خلال اتحادها العام بتخصيص جزء يسير من أرباحها (وليكن 05. في المائة مثلا) لهذا الغرض؟
لا سبيل للتطوير دون بذل الدنانير!