رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هندسة مالية أم عبث مالي

[email protected]

في بداية هذا الأسبوع أعلن هنري بولسون وزير الخزانة الأمريكي في مؤتمر صحافي جمعه مع رئيس الوكالة الفيدرالية للتمويل الإسكاني القيام بوضع عملاقي التمويل الإسكاني "فاني ماي" و"فريدي ماك" تحت الوصاية الفيدرالية. حيث قامت الحكومة الأمريكية بتأميم العملاقين بعد أن بلغت الإفلاسات في قروض الإسكان أعلى معدلاتها خلال ثلاثة عقود مهددة بانهيار حاد في الأسواق المالية الأمريكية والعالمية على حد سواء. لكن ما أهمية هاتين المؤسستين الماليتين, ولماذا عمدت الحكومة الأمريكية إلى تأميمهما؟ المؤسستان تمتلكان وتضمنان ما يقارب 12 تريليون دولار من قروض الإسكان في الولايات المتحدة وانهيارهما يعني تكبد الاقتصاد الأمريكي خسائر تعادل تقريباً النتاج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. ما يعني أن عملية التدخل لحماية الاقتصاد باتت أمراً لا مفر منه للحكومة الأمريكية التي تواجه بانتقادات شديدة بسبب تعاملها مع الأزمة. ويأتي التدخل في شكل جعل المؤسستين تحت وصاية الوكالة الفيدرالية للتمويل الإسكاني FHFA, إضافة إلى قيام وزارة الخزانة الأمريكية بشراء ما قيمته 100 مليار دولار أمريكي من الأسهم الممتازة لكل من "فاني ماي" و"فريدي ماك", ما يعطيها أولوية في حال تصفية المؤسستين اللتين تعدان صانعتين لسوق التمويل الإسكاني في الولايات المتحدة.
لكن هل كانت "فاني ماي" و"فريدي ماك" وراء المشكلة التي حدثت أم أنهما ضحية لسياسات النظام المالي الأمريكي الذي تغير بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين باستحداث وسائل تمويل جديدة من خلال ما يسمى الهندسة المالية؟ في اعتقادي أن المؤسستين كانتا ضحية للعبث المالي الذي مارسته البنوك الاستثمارية خلال السنوات الأخيرة باستحداث وسائل تمويل غير مسبوقة تمكنها من مد التمويل إلى فئات من الناس ذات ملاءة ائتمانية ضعيفة وفي الوقت نفسه الحصول على أرباح كبيرة, إما من خلال رسوم التمويل التي تستقطعها وإما من خلال إعادة بيع القروض وإعادة برمجتها بحيث تظهر وكأنها قروض ذات ملاءة ائتمانية عالية. الأمر الذي أدى إلى توسع لم يسبق له مثيل في عملية منح قروض الإسكان، التي تتصف بضعف سيولتها المالية، أدى في نهاية الأمر إلى تزايد حالات الإفلاس تزامناً مع ارتفاع سعر الفائدة. هذا النوع من العبث المالي الذي مارسته البنوك الاستثمارية هو السبب الرئيس وراء أزمة الائتمان الحالية التي امتدت إلى الاقتصادات العالمية الأخرى ومنها الاقتصاد الأوروبي الذي يعد أكثر الاقتصادات تضرراً من هذه المشكلة. إذ يلقي المسؤولون الاقتصاديون الأوروبيون باللائمة على المسؤولين الأمريكيين بسبب عدم تعاملهم بشكل صحيح مع المشكلة عندما كانت في مهدها بل الاستمرار في رفع سعر الفائدة ما فاقم المشكلة.
لكن هل سينتهي الأمر عند هذا الحد بوضع الحكومة الأمريكية المؤسستين تحت وصايتها؟ وهل سيعيد ذلك الاطمئنان إلى السوق العالمية للسندات المدعومة بقروض الرهن العقاري؟ وإن كان ارتفاع الأسواق المالية بعد إعلان الخبر قد يدلل على أن الأسوأ قد مضى، لكن المشكلة تتعلق الآن بالثقة بسندات الرهن العقاري الأمريكي التي كانت ملاذاً آمناً لكثير من المستثمرين في العالم سواء المؤسسات أو الحكومات. ما يعني أن تكلفة تلك السندات يجب أن ترتفع لتعكس المخاطر التي ستستمر معلقة في أذهان المستثمرين مثلها في ذلك مثل آثار الكساد الكبير لعام 1929. حيث إن الفرق الكبير بين العائد على السندات العديمة المخاطرة (سندات الخزانة) وبين العائد على الأصول المالية (الأسهم) ممثلة في مؤشر ستانداردز آند بورز لا يمكن تفسيرها إلا عن طريق العامل النفسي الذي لا يزال مسيطراً على أذهان من عاصروا تلك الفترة وتأثروا بها. لذلك فإن المستثمرين العالميين الذين خسروا كثيرا من أموالهم في هذه الأزمة سيطالبون بعائد أعلى للعودة مرة أخرى للاستثمار في هذه السندات.
هذه هي النتائج الواقعية لما يسمى الهندسة المالية مجازاً لكنها في الواقع (عبث مالي) يعمل على جني أرباح على المدى القصير دون الأخذ في الحسبان نتائج ذلك على المدى البعيد. ومن الملاحظ أن هذا العبث المالي يتزايد بشكل مطرد مع زيادة ليونة الأنظمة المالية التي تحكم الاقتصاد, خصوصاً القطاع المصرفي. فبعد الكساد الكبير لعام 1929 عمل الكونجرس الأمريكي على تشريع كثير من القوانين لضبط النظام المصرفي, ومن هذه الأنظمة منع الجمع بين نشاط البنوك الاستثمارية الذي تنطوي على مخاطر عالية وبين نشاط البنوك التجارية والذي تواجه مخاطر جري المودعين. لكن في نهاية التسعينيات أصدر الكونجرس سلسلة من التشريعات التي تنطوي على مرونة أكثر في ممارسة الأنشطة المصرفية وآخرها قرار السماح بالجمع بين النشاطين الاستثماري والتجاري. مما استتبعه كثير من الاستحواذات لبنوك تجارية وبنوك استثمارية وترافق مع ثورة في عملية إصدار المنتجات المالية أدت بسبب تعقيداتها وغموضها إلى ما نشهده حالياً. هذا الأمر واجهته النمور الآسيوية أيضاً خلال فترة التسعينيات والتي انتهت بأزمة 1997 وأدت إلى تشريعات أكثر صرامة في النظام المصرفي.
لذلك فإنه يتوقع، مع تزايد مؤسسات الوساطة المالية في المملكة والتي تجاوزت 30 مؤسسة إلى جانب البنوك التجارية ونظراً لدخول كثير من البنوك الاستثمارية الأجنبية السوق السعودية وتوسع نشاطي التمويل الإسكاني والتأميني، أن تكون هناك ثورة في المنتجات التمويلية سواءً للأفراد أو للمؤسسات. وهذا يتطلب مزيداً من الحزم في الأنظمة المصرفية لضبط هذه الأنشطة بحيث لا يؤدي ذلك إلى ما حدث في أماكن أخرى من العالم. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: فصل النشاط المصرفي التجاري عن النشاط الاستثماري وتحديد نسب عليا لقروض الإسكان في محافظ البنوك للمحافظة على سيولة النظام المصرفي, إضافة إلى فرض مزيد من الشفافية على طريقة إدارة المحافظ الاستثمارية لمؤسسات الوساطة المالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي