مؤسسة النقد يمكن أن تكون أداة فاعلة في التغلب على التضخم إذا رغبت .. فهل ترغب؟

مؤسسة النقد يمكن أن تكون أداة فاعلة في التغلب على التضخم إذا رغبت .. فهل ترغب؟

" في ظل الأجواء الغائمة التي تبدو للوهلة الأولى غير مشجعة لأي جهد بشري، تطوف هذه الزاوية كل أسبوع ببقاع متفرقة دون أن تتقيد بحدود جغرافية لترصد اختلالات متنوعة تدرسها وتعالجها أملا في أن يكون الخلل مفتاحا للصواب".

لقد وصلت الحالة التضخمية التي نرزح تحت وطأتها اليوم إلى أرقام قياسية لم يسبق لها مثيل. ومع ذلك ومع تعرض كثير من الأفراد للمعاناة المستمرة بسبب ارتفاع مستويات المعيشة، لم تضطلع مؤسسة النقد بأي تغييرات ملموسة سواء في المدى القصير أو في المدى البعيد، كما أنها لم توفر أي دعائم ضرورية لشن حرب ناجحة على هذه الظاهرة. إن حالة التضخم التي نعيشها هي من وجهة مؤسسة النقد حالة عادية عابرة في كثير من دول العالم وليس في المملكة فقط. وحين نحاول كأكاديميين نقد الإجراءات التي تتخذها مؤسسة النقد لمعالجة حالة التضخم التي يعاني منها السواد الأعظم من الناس، يصر غالبية الأطراف المعنية بالسياسات النقدية والمالية على أن ما تم اتخاذه لم يكن بالإمكان اتخاذ خير منه. إن ما نتقدم به من تحليلات للحالة التضخمية التي يترنح من قسوتها واقعنا الاقتصادي الراهن إنما هو منطلق من قراءتنا للنظريات الاقتصادية التي تعتمد مبدأ اقتصاد السوق، وكذلك من تجارب بلدان عديدة سبقتنا في مواجهة مثل هذه الظروف، وليس من وحي إرادتنا الملزمة لشخص ما.
ولكي نسلط الضوء على هشاشة التعاطي التي تنتهجها مؤسسة النقد مع الحالة التضخمية التي نعيشها في المملكة، نستذكر عنصرا واحدا من أدوات السياسة النقدية التي يمكن لمؤسسة النقد التعامل معه من أجل مكافحة التضخم. ونعني بهذا العنصر سعر الصرف الذي يتم على أساسه مبادلة وحدة العملة المحلية بالعملات الأجنبية. وتشير الأدبيات الاقتصادية إلى وجود علاقة إيجابية بين التضخم النقدي في دولة ما وسعر الصرف. أي أنه كلما ارتفع معدل التضخم ارتفع معدل سعر الصرف، أو بمعنى آخر انخفضت القوة الشرائية للعملة المحلية. غير أن الحالة التي نلاحظها في المملكة هي أن سعر صرف الريال مقابل الدولار الأمريكي ثابت لسنوات عديدة، وفي الوقت نفسه هناك استمرار في ارتفاع أسعار السلع والخدمات أي استمرار في وجود معدلات تضخم مرتفعة في الاقتصاد السعودي. إن البعض قد يجد صعوبة في فهم هذه الظاهرة وكأنها معارضة للأدبيات الاقتصادية المتعارف عليها. إن تفسير ذلك يعود إلى الوضع الاقتصادي غير الطبيعي الذي نعيشه والذي يعكس الاختلالات الهيكلية في تركيبة الاقتصاد السعودي. من أهم هذه الاختلالات ربط الريال السعودي بعملة أجنبية واحدة هي الدولار الأمريكي، الأمر الذي يضع قيودا ومحددات على السياسة النقدية التي يمكن أن تنتهجها مؤسسة النقد في المملكة. من أهم هذه القيود، القيود الناتجة عن الارتفاع المستمر لصافي الاحتياطيات والاستثمارات الأجنبية لدى مؤسسة النقد والأفراد والتي معظمها بالدولار. كذلك ضخامة الإيرادات العامة للدولة نتيجة الارتفاع في أسعار النفط التي يتم تحصيلها بالدولار وعدم قدرة الاقتصاد السعودي على استيعاب هذا الحجم من السيولة. إن هذه العوامل وغيرها تتفاعل مع بعضها لتفسر لنا الحالة التي نحن عليها المتمثلة في ارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية للريال.
إن التزام مؤسسة النقد وإصرارها على ربط سعر صرف الريال بالدولار على الرغم من الانخفاض المستمر في قيمته، وعدم التوجه لا من قريب ولا من بعيد نحو الاستقلال والتحرر من سياسة الدولرة قيدت كثيرا من قدرة المؤسسة على التأثير في السياسة النقدية في المملكة. إن ربط الريال بالدولار فيه قبول من قبل مؤسسة النقد باقتفاء السياسة النقدية الأمريكية، وأن الاستمرار في ربط الريال بالدولار سيساهم في إحداث نوع من عدم الاستقرار النقدي وانخفاض الثقة بالاقتصاد الوطني والريال السعودي. كما أن ربط الفائدة على الريال بالفائدة على الدولار فيه دلالة أيضا على إدارة مؤسسة النقد سياسة أسعار الفائدة وفقا لتطورات النشاط الاقتصادي الأمريكي وليس الاقتصاد المحلي.
إن الفكر الاقتصادي الحديث يشير إلى أن مصداقية السياسة النقدية وقدرة العاملين في المصارف المركزية على استخدام أدوات هذه السياسة الكمية والنوعية مرتبطة إلى حد كبير بمستوى الاستقلالية التي يتمتع بها العاملون في هذه المصارف وعدم ارتباطهم بأي توجه اقتصادي أو أيديولوجي من نوع ما. إن أحد المقومات الرئيسة التي يجب أن تلتزم بها المؤسسة عند محاربتها ظاهرة التضخم هي أن تجعل سياستها أكثر استقلالية وقابلية للتنبؤ بها من قبل جميع الأطراف المعنية بهذه الظاهرة. إن احتفاظ مؤسسة النقد بالعديد من أصولها الأجنبية بالدولار جعلها تتردد كثيرا في توضيح سياستها المستخدمة لمحاربة التضخم. وهذا بلا شك سوف يؤدي إلى انخفاض ثقة المستثمرين المحلي والأجنبي وعدم اطمئنانهما إلى العملية الاقتصادية وقدرة السلطات النقدية على ضبط التضخم، والتقليل من مستويات المخاطرة المرتبطة به. إن عدم قدرة مؤسسة النقد على سحب السيولة وإدارة الفائض بطريقة سليمة سيساهم في رفع معدلات التضخم والدفع بها إلى مستويات أعلى بكثير مما هي عليه الآن، الأمر الذي سيؤثر سلبا في الدخل الحقيقي للمواطن وفي القوة الشرائية للريال السعودي.

[email protected]

الأكثر قراءة