أكبر تبرع خيريّ في التاريخ

أكبر تبرع خيريّ في التاريخ

وارن أدوارد بافيت Warren Buffett مستثمر ورجل أعمال أمريكي يبلغ من العمر 77 عاماً، جاء ليتربع على عرش "الملياردية" هذا العام، بعد أن احتكرها قبله وعلى مدى 13 عاماً (بين عامي 1995 و2007) زميله بيل جيتس البالغ من العمر 52 عاماً. فقد قُدرت ثروته عام 2007 بنحو 62 مليار دولار، وبهذا تم تصنيفه بأنه أغنى رجل في العالم بحسب مجلة "فوربس" Forbes .
تحوي سيرة بافيت جوانب عجيبة، لكني أتوقف عند تصنيف تبرعه للأعمال الخيرية بأنه الأكبر في التاريخ المعاصر.
استطاع هذا المستثمر أن يجمع ثروة طائلة عبر عدد من الاستثمارات، وكان تتويجها تحت إدارة شركة قابضة تحمل اسم: "بيركشاير هاثاواي" Berkshire Hathaway, وهو أكبر مساهميها ومديرها التنفيذي.
وقد كان من اللافت للأنظار والمثير للدهشة أنَّ بافيت أعلن في حزيران (يونيو) 2006 تعهده بالتبرع بالجزء الأكبر من ثروته من خلال تخصيص 83 في المائة منها لمؤسسة بيل وميليندا جيتس فاونديشن الخيرية. وبلغت قيمة هذا التبرع نحو 30.7 مليار دولار، فعده المراقبون أكبر تبرع خيري في التاريخ المعاصر. وسيكون هذا التبرع مخصصاً حسبما أُعلن لدعم الأبحاث الطبية ومساعدة الفقراء والمرضى، فضلاً عن تشجيع التعليم والتربية في البلدان الفقيرة.
وتضمن هذا الإعلان التأكيد على المبادرة بتقديم التبرع وجدولته بحيث تتسلم المؤسسة المذكورة 5 في المائة من إجمالي التبرع على أساس سنوي في كل تموز (يوليو)، اعتباراً من عام 2006. كما تضمن إعلان بافيت انضمامه إلى مجلس إدارة مؤسسة جيتس الخيرية، رغم أنه لا يعتزم أداء دور نشط في إدارة المؤسسة.
كما أعلن بافيت عن خطط تقضي بالمساهمة بأسهم إضافية من أسهم شركة بيركشاير تقترب قيمتها من 6.7 مليار دولار لمؤسسة سوزان تومبسون بافيت وغيرها من المؤسسات الخيرية التي يترأسها ثلاثة من أولاده.
وغير بعيد عنه بيل جيتس: William Henry Gates III مؤسس شركة مايكروسوفت المنافس لبافيت" في قمة الثراء المالي حيث سبقه إلى ميدان التبرع الخيري عندما أسهم بـ 20 مليار دولار من ثروته لإنشاء مؤسسة بيل وميليندا جيتس للأعمال الخيرية Bill & Melinda Gates Foundation, وهي مؤسسة خيرية حول العالم، والأهداف الرئيسة لها على الصعيد العالمي تعزيز الرعاية الصحية والحد من الفقر المدقع؛ وأما في الولايات المتحدة، فأهدافها توسيع فرص التعليم والوصول إلى تكنولوجيا المعلومات. وميلندا هذه هي مديرة سابقة في "مايكروسوفت" وزوجة بيل جيتس.
ثم أعلن جيتس استقالته من منصبه على رأس شركة مايكروسوفت وتفرغه تماماً لإدارة مؤسسته الخيرية، ومقتضى ذلك أن يضع ثروته كلها لخدمة المؤسسة, وهذا سيوسع دائرة نشاطها لتصل إلى من استهدفتهم من الفقراء والمحتاجين في كثير من أنحاء العالم.
إلى غير ذلك من الجوانب في حياة هذين الرجلين التي تحمل العبر، وهنا يبرز التساؤل الكبير: ما الذي يدفع الرجلين الأغنى في العالم للتبرع بأموالهما التي كَدَّا لجمعها على مدى سنوات طويلة من العمل الدؤوب؟
بعض الجواب يأتينا على لسان بافيت نفسه حيث يقول: "نحن نؤمن بأن الثروات التي تتدفق من المجتمع يجب أن تعود في جزء كبير منها إلى المجتمع نفسه ليستفيد منها". ويقول أيضاً: أعتقد شخصياً أن المجتمع مسؤول وبنسبة كبيرة عما حققته من إيرادات.
إنَّ هذا الجواب ليعبر عن روح شفافة لدى بافيت وجيتس, والتي بُنيت على رؤيتهما للمال وموقعه في الحياة.
إنّ من المقرر قطعاً أن سخاء النفوس وسموها وتحليها بالأخلاق الفاضلة قد يتحقق لدى الشخص ولو كان غير مسلم، فما زال التاريخ الإنساني يحفظ لأصحاب مكارم الأخلاق مآثرهم مهما كانت مِلَّته، كما في تاريخنا العربي حيث حاتم الطائي وعبد الله بن جدعان وغيرهما.
إن الرؤية التي بنى عليها بافيت وجيتس قرارهما الأخير بتوجيه ثرواتهما للأعمال الخيرية لتوضح أن اكتناز المال وتضخيم الأرصدة وإن كان إحدى محطات أهدافهما إلا أن ذلك لم يحقق رضاهما النفسي ، ولذلك بحثا عمَّا يحقق هذا الرضا فوجداه في صنع الخير والإحسان إلى الناس. مع ملاحظة ما فاتهما بشأن حقوق الورثة كما أمرت شريعة الإسلام.
لقد كان هذا الاتجاه لدى هذين الثريين من جهة تأسيسهما جمعيات خيرية باسميهما وأسماء الزوجات والأولاد موضحاً القناعة التامة لدى الرجلين بأن التاريخ لا يخلد أرقام الأرصدة، قلَّت أم كثرت، ولكن يخلد المآثر والذكرى الطيبة والثناء الجميل على أصحاب الخير وصنع المعروف ونشره في الناس، بحيث يكون امتداداً لعمر الإنسان، وهذا هو المتسق مع أهداف أشرف الناس وأنبلهم ألا وهم الأنبياء عليهم السلام.
ولا غرو حينئذ أن نجد في التوجيه النبوي الشريف الترغيب في إحسان الوصية وبذل الأوقاف، فالنبي الكريم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد خرج من كل أمواله وجعلها صدقة لوجه الله، وما كانت بشيء كثير، ولو أراد لكانت جبالاً من الذهب، وهو عليه الصلاة والسلام متابعٌ في ذلك إخوانه من النبيين، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: "لا نُورث، ما تركنا فهو صدقة" رواه البخاري ومسلم. فالأنبياء لم يوجدوا في الدنيا لجمع الأموال لذاتها، ولكن وجدوا لهداية الخلق.
إن في هذا الموقف من هذين الثريين بافيت" وجيتس بتوجيه معظم أموالهما للجوانب الخيرية جوانب من العبر للفقراء وللأغنياء.
أما الفقراء: فلأجل أن يعلموا أن طيب الحياة وطمأنينتها وبهجتها لا تستلزم حيازة الأموال الطائلة، بل ما وفى بالحاجات فهو الكفاية، يقول عليه الصلاة والسلام: "من أصبح منكم آمناً في سِرْبِه، معافى في جسده، عنده قُوتُ يومِه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها".
وأما العبرة للأغنياء: مَنْ بلغ منهم في الغنى درجاته العالية أو من كان مترقياً في سلمه، فهي أن يدركوا أن شبع النفس من المال لا منتهى له ولا حد، ولن تشعر النفس بحلاوة المال ولن تجتني ثماره إلى إذا أفاض المرء على من حوله الخير والنفع، على حد ما قاله بافيت: "نحن نؤمن بأن الثروات التي تتدفق من المجتمع يجب أن تعود في جزء كبير منها إلى المجتمع نفسه ليستفيد منها".
وخيرٌ منه وأبلغ قول المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام: « إنَّ لله أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم » رواه الطبراني وابن أبي الدنيا وسنده حسن.
بقي هنا أن أقول: إن ثمة تبرعاً خيرياً ما زالت البشرية ولن تزال تتفيأ آثاره وبركاته، إنه ذلك التبرع الذي نوَّه القرآن الكريم بصاحبه في قوله سبحانه: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) [الليل:18] وقال عنه المصطفى عليه الصلاة والسلام: "ما نفعني مالٌ قطُّ ما نفعني مالُ أبي بكر" فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟!

[email protected]

الأكثر قراءة