خطيب الـ "هايد بارك" يرقص ويغني!!

[email protected]

قبل أيام عدة زرت حديقة الـ"هايد بارك" في لندن؛ للتعرف على منابرها التي طالما قرأنا لها, وسمعنا عنها, وقديما قيل:"تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!" فقد كنت أظن هذه المنابر تشكل منابر حضارية, تشع منها صدق الكلمة, وتنبع منها الصراحة والشفافية, ويتدفق من أرجائها روح الحوار, وإذا بي أفاجأ, أن هذه المنابر, إما مأجورة لهذه الطائفة أو تلك, وإما قد اعتلى عليها من امتزج بوجدانه روح الإقصاء لكل من لا يؤمن بمبادئه, ولا ينحني لخطابه, والقليل القليل من اتخذ هذا المنبر الحر وسيلة للكلمة الصادقة, والحوار الهادف, وإن كان لي تحفظ على مطلق حرية الكلمة في هذه المنابر؛ وذلك أنه يسمح مثلا بنقد رئيس الوزراء في ركن الحديقة, ولكن لا يسمح بنقد الملكة, وهذه ازدواجية واضحة, تمنع إطلاق الحرية بمعناها الواسع, وحرية الكلمة في عهد النبوة كانت أكثر صدقا, وأعظم عمقا, فقد كان الأعرابي يأخذ بتلابيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ, وهو الحاكم, والنبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه, فيقول له: "يا محمد, مر لي من مال الله الذي عندك, فما يزيده ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يتبسم في وجهه, ويأمر له بعطاء...!! وقد تربى صحابته على هذه المثل العليا في التواضع, وقبول النقد, ولذا قال خليفته الراشد أبو بكر رضي الله عنه فور توليه الخلافة, وهو على المنبر: "أيها الناس, إني وليت عليكم ولست بخيركم, فإن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوموني!" فأيهما - أخي القارئ - أكثر قبولاً بحرية الكلمة الصادقة, وبالخطاب الصريح الموغل في الصراحة والمكاشفة, هم في عصرهم الحاضر, أم نحن في عصرنا الغابر؟
وعوداً على ذي بدء, وحيث إني لا أعرف من اللغة الإنجليزية إلا بالقدر الذي يضحك مني العربي, ويحار فيني الإنجليزي, فقد كان لي لسان سؤول عما يقوله هؤلاء الخطباء الذين ينتمون إلى مدارس متعددة, وطوائف مختلفة, كما أن بعض حركات ومشاهد هؤلاء المتسمِّرين على أعواد المنابر تكشف ما لا تكشفه الكلمة أحياناً, فمثلاً رأيت خطيباً نصرانياً متعصباً, يزبد ويرعد بكلماته الصاخبة, فتوجه إليه عدد من الحضور بمجموعة من الأسئلة المحرجة, فانشغل عنها بإخراج صافرة من جيبه, ثم نزل من منبره وأخذ يرقص ويغني, ويحث جماهيره الذين ينتمون إلى طائفته بالغناء والرقص استهتارا بالأسئلة, ورغبة في تفريق جمع أولئك المشاغبين بذلك النوع المحرج من الأسئلة! وبعد أن فرغ من التصفير والرقص والغناء رجع إلى منبره, فتوجهت إليه امرأة بسؤال أحرجه أمام الحضور, فأشاح بوجهه عنها, وحين ألحت عليه في طلب الإجابة عاد للتصفير والغناء!! وهكذا في مشاهد مقززة..., تنفر منها الكلمة الصادقة, وتتخلف عنها شفافية الحوار, ويخيم عليها روح التهميش والإقصاء! إلا من خطباء محدودين قد لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة, فعجبت من بعض بني جلدتنا, ممن إذا ذكر هذه الحديقة البريطانية, وتحدث عن هذه المنابر اللندنية لم ينظر إلا إلى الجانب الملآن من الكأس (وهو في تقديري الاستثناء)، ويتجاهل الجانب الفارغ منه (وهو الأصل, وللأسف) بل إن آخرين منا, لا يرون النقيصة إلا في خطبائها وروادها من العرب والمسلمين, فيختزل الأخطاء في شخصنا نحن العرب والمسلمين, ويتجاهل العديد من الممارسات الخاطئة, والتي يقع فيها عدد من خطبائهم المتعصبين, ممن لا يحسنون إلا الإقصاء, ولا يجيدون إلا الرقص والغناء كأسلوب حضاري في التعبير عن الكلمة!! فلماذا هذه الانهزامية المقيتة, والتي لا ترى إلا الجانب المضيء في غيرنا, ولا ترى إلا الجانب المظلم في إخواننا؟! وهذا لا يعني أنه لا توجد ممارسات خاطئة من إخواننا, كلا, فإنه يقع من بعضهم أخطاء لا تغتفر, ولكن لا يليق بنا أن نرى القذاة في أعين إخواننا, ولا نرى الجذع في أعين غيرنا, والإسلام كما أمرنا بالعدل مع غيرنا, فقد أمرنا بالعدل مع إخواننا من باب أولى, وهذا يكشف عظمة هذا الدين الإسلامي الذي أمر بصدق الكلمة حتى مع المخالف, كما قال تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما) بل تجلى الصدق في الكلمة, والعدل في الحكم حتى مع الشيطان, وذلك حين قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي هريرة عن الشيطان: "صدقك وهو كذوب" أي: من عادته الكذب, ولكنه صدق معك في هذه الحالة المعينة المذكورة في القصة..., وإذا كان المسلم مأموراً بالصدق في حكمه على الآخرين, فما الظن إذاً في حكمه على إخوانه المسلمين؟
نسأل الله تعالى أن يرزقنا العدل في أقوالنا وأعمالنا, مع من نحب ومن لا نحب, آمين, آمين...

أستاذ الفقه المساعد في المعهد العالي للقضاء

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي