العقاب والجريمة في الغش التجاري
هناك علاقة وثيقة بين العقاب والجريمة، فكلما كان العقاب شديداً وصارماً قلت نسبة الجريمة، والعكس صحيح أي كلما كانت العقوبة لينة وضعيفة ارتفعت نسبة ارتكاب الجريمة، وسن عقوبات شديدة ومشددة في جرائم معينة هدفه الأساسي هو الردع والتخويف أكثر منه التطبيق، ففي شريعتنا الإسلامية مثلا عقوبة زنى المحصن الرجم، وعقوبة السرقة قطع اليد، إلا أن هاتين العقوبتين تطبقان في أضيق الحدود لصعوبة شروط الإثبات، وما بين غلظة العقوبة وصعوبة الشروط تحقق هدف الردع، وهذا يجب أن تكون عليه بعض العقوبات التي تسن لمواجهة جرائم مختلفة مما فيها إضرار فادح وبين بأمن المجتمع وبكل ما استجد فيه من معاملات، ومن ذلك مثلا جرائم الغش التجاري في سلع غذائية وغير غذائية ومما يسبب الضرر الصحي بالناس أو سلب أموالهم بأسعار لا تتناسب مع قيمة التكلفة.
أسوق هذه المقدمة على خلفية ما نشرته جريدة "المدينة" يوم السبت الماضي (29) شعبان حول مصادقة ديوان المظالم على حكم بتغريم شركة استيراد "مجهولة" مبلغ 450 ألف ريال مع إلغاء العقود الحكومية كافة معها، أما الجرم الذي ارتكبته فهو قيامها، وبكل بساطة، بتصنيع سلع ومواد غذائية ووضع علامات تجارية مشهورة عليها، ومنها سلع تشهد إقبالاً كبيراً خلال شهر رمضان الكريم، كما تم تغريم ثلاثة مراكز تجارية في جدة لرصد مواد غذائية "محظورة"، هكذا جاء في الخبر، في مخازنها.
توقفت طويلا عند هذا الخبر وما أوقفني ليس الخبر ذاته، فكل يوم تقريبا تنشر الصحف مثل هذه الوقائع الخاصة بالغش التجاري، بل ومما يصل إلى حد إعادة بيع سلع ومواد غذائية منتهية الصلاحية، وما أوقفني هو أولا جرأة هذه الجهات التجارية على الغش وعدم خشيتها من العقوبة، والثاني نوعية العقوبات التي طبقت عليها مقابل الجرم الذي ارتكبته عامدة متعمدة بغش تجاري شنيع، فالشركة قامت بغش علامة تجارية شهيرة، والمراكز تخزن، للبيع طبعاً، سلع ومواد غذائية وصفها الخبر المنشور بالمحظورة وهو ما يعني أما أنها ممنوعة أو فاسدة. ولي على العقوبات المطبقة مقابل جرائم الغش التجاري الذي ارتكبته الشركة والمراكز التجارية الثلاث عدة ملاحظات، أولها أن إخفاء الأسماء والستر عليها لا يتوافق مع كبر الجرم الذي ارتكبته، فقد كان الأولى التشهير بها، وثانيها أن العقوبة المادية وحدها لا تكفي وليست رادعة ما دام سيسمح لهم بممارسة العمل التجاري وكأن ما ارتكبوه مجرد غلطة وليس جرما، فمثل هذه العقوبات لن تردع أحدا من الغش ما دامت قاصرة على غرامة مالية يسهل تعويضها مع الستر عليه وعدم كشفه، وثالثها أن تكون العقوبة صارمة في مثل هذه الحالات بمنع من يرتكبها من مزاولة العمل التجاري.
قد يرى البعض أن مثل هذه العقوبة المطلوبة قاسية ومشددة جدا، وهذا صحيح ولكن علينا النظر أيضا لشدة وخطورة الجرم المرتكب الذي يضر بشريحة كبيرة من الناس من جانب، وملاحظة اتساع ظاهرة الغش التجاري من ناحية أخرى، وهو ما يعني أن العقوبات المطبقة في مثل هذه الحالات ليست رادعة بما فيه الكفاية، ومن أجل جعل العقوبة ذات صفة رادعة وتهدف إلى منع وقوع الجرم من قبل كل من ستسول له نفسه غش الناس، فلابد من جعلها فادحة وشديدة حتى تكون عقوبة رادعة واستباقية ووقائية، وهذا هدف كل عقوبة، ولنضح في البداية بالبعض في سبيل ضبط السوق من مثل هؤلاء الغشاشين والمتلاعبين بدافع من شهوة المال والكسب بالطرق غير المشروعة.
بقي القول إن صاحب تلك الشركة تعذر بأن العمالة الأجنبية فعلت عمليات الغش دون علمه ..!!، وهذا يعني أما أنه مؤجر عليهم المكان وتاركهم يسرحون ويمرحون ويمارسون الغش باسمه، أو أنه شريك معهم بتوفير تصريح رسمي ليس جديرا به لتلاعبه فيه، وعذره على أية حال أقبح من الذنب.