توحيد سلم الرواتب الجديد للقطاعات الصحية .. هل من سلبيات؟ (2)
امتدادا للحديث السابق والذي تناولنا فيه قرار موافقة المجلس الاقتصادي الأعلى على توحيد سلم الرواتب في المستشفيات الحكومية العامة والتخصصية في جميع القطاعات الصحية المتعددة. الحديث السابق تمحور حول العلاقة بين توحيد الرواتب والخصخصة. ولعلنا في هذا المقال أن نتطرق لقرار مساواة الرواتب بين القطاعات الصحية المختلفة، ولكن محاولة للإجابة عن هذا التساؤل .. هل يعزى نجاح مستشفيات التشغيل الذاتي إلى الرواتب والمميزات المادية الأخرى فقط؟أم أن هناك عوامل أخرى أسهمت في نجاح مستشفيات التشغيل الذاتي؟
المرض المزمن الذي يعانيه القطاع الصحي يتلخص في تحوير مسببات التقصير وسوء الخدمات الصحية لعوامل أخرى دون تقديم حلول تكاملية، فمثلا سوء الخدمات الصحية يربط بعدم تطبيق التأمين الصحي. وما يدريك فلعله بعد تطبيق التأمين الصحي سيربط التقصير بسوء تنظيم شركات التأمين، ثم بعد ذلك بضعف بنية المستشفيات التحتية لمراقبة شركات التأمين وهكذا. فمشكلة وزارة الصحة، خصوصا في القضايا الإدارية، عدم الإلمام بجميع عناصر مسببات المشكلة أو سرعة الحكم على النتائج بـ"أحادية" دون تقديم حلول شمولية "تحرث" جميع المسببات الحقيقية. فمثلا هل السبب الوحيد للهجرة من المستشفيات الحكومية التقليدية لمستشفيات التشغيل الذاتي المميزات المادية فقط؟ هل مضاعفة رواتب العاملين في المستشفيات الحكومية ستمكن مستشفيات وزارة الصحة من تقديم خدمة علاجية مميزة؟ أتمنى أن تحصر مسببات سوء الخدمات الصحية لمستشفيات وزارة الصحة ومن ثم توضع خطة معلومة الوقت للتنفيذ بحيث يكون معلوما للجميع مسببات سوء الخدمات الصحية ووقت معالجتها.
أعود مرة أخرى لمحاولة الإجابة عن التساؤل السابق: هل توحيد رواتب العاملين سيحل المشكلات الصحية التي تعانيها مستشفيات وزارة الصحة؟
لا شك أن الرواتب من أهم ما ينظر إليه الموظف، وغالبا ما تكون أهم العناصر عند الحكم على عرض وظيفي جديد، لكن ما لم يلتف له القرار أن مرونة القرار الصحي والإداري والمالي مقارنة بالمستشفيات الحكومية الأخرى من أهم عوامل نجاح مستشفيات التشغيل الذاتي، فتوافر البيئة السليمة لتحقيق الجودة الصحية من أهم أسباب تفوقها.
كما أن مرونة نظام التشغيل الذاتي تعطي الإدارة والعاملين فيها بيئة عمل عنوانها البقاء للأفضل. فنظام الخدمة المدنية نظام حكومي لا يساعد على توجيه عقوبات صارمة في وجهة المقصر إلا في أضيق الحالات بينما تتميز مستشفيات التشغيل الذاتي بإمكانية فصل الموظف إذا أخل بعمله وفق ضوابط معينة منصوص عليها في نظام العمل والعمال. لا شك بأن نظام العمل والعمال فيه من الصرامة ما يساعد على محاسبة المقصر، وهو ما ساعد مستشفيات التشغيل الذاتي على التحرك في مساحة واسعة لا يمكن لنظام الخدمة المدنية التحرك فيها. كما أن نظام العمل والعمال فيه من المرونة لتشجيع المجتهد ما لا يتيحه نظام الخدمة المدنية. القطاع الصحي يحتاج إلى هذه المساحة التي وضعها نظام العمل والعمال خصوصا كون القطاع الصحي قطاعاً حيوي يتطلب الكثير من الانضباطية والحزم.
الأمان الوظيفي من أهم مميزات العمل الحكومي، ليس لدينا فقط، بل لدى جميع بلدان العالم وهو ما يجعل الإنتاجية في القطاع الحكومي أقل بكثير من القطاع الخاص، فمثلا إجراء الفصل يتطلب غياباً متواصلاً أو التورط في قضايا فساد أو حالات أخرى محدودة. هذا الأمن الوظيفي يقود في حالات كثيرة للتراخي وضعف الإنتاجية وعدم الاكتراث بالتكاليف.
علاوة على ذلك فإن الأنظمة الحكومية عموما فيها من البيروقراطية الإدارية التي تجعل الإدارات والأقسام تتحرك وكأنها وزارات مستقلة لكن أنظمة التشغيل الذاتي فيها من المرونة الإدارية والتنظيمية والإجرائية ما يساعدها على خلق جو أكثر تجانسا ومدعما لفريق العمل.
الذي أخشاه من تحويل مستشفيات التشغيل الذاتي إلى نظام الخدمة المدنية في أن هذا التحويل يتح لموظفيها فرصة للتقصير، خصوصا أن نظام الخدمة المدنية فيه مساحة واسعة للمقصر وحماية من الفصل إلا في نطاق ضيق جدا. كما أن إنتاجية المستشفيات ستسوء خصوصا لتحولها من قطاع شبه خاص إلى قطاع حكومي بغوص في مناخ البيروقراطية الحكومية.
فعند مراجعة الأبحاث الأكاديمية المهتمة بتقييم الأداء نجد أنها تقود إلى النتيجة نفسها وهي أن القطاع الخاص أعلى إنتاجية من القطاعين الحكومي والخيري. فنحن بهذا القرار نكون قد اتجاهنا إلى توفير حماية لموظفي التشغيل الذاتي مما يساعد على التراخي وضعف الإنتاجية. ربط مستشفيات التشغيل الذاتي ومساواتها بالمستشفيات الحكومية تشجيع للهجرة إلى المستشفيات الحكومية، خصوصا أنها ستكون الخيار الأفضل لجمعها بين الراتب والأمان الوظيفي، لكن تأثير هذا التوجه سينعكس سلبا على الجودة الصحية والخدمة الصحية المقدمة. وللحديث بقية.