تحديات اقتصادية مستمرة
[email protected]
رفع خبراء مؤسسة النقد العربي السعودي توقعاتهم حول معدل التضخم المتوقع في اقتصادنا خلال الربع الثالث من العام الجاري إلى نحو 10.6 في المائة. وأكدت المؤسسة في أحدث تقرير صادر عنها أن خبراءها يتوقعون استمرار الضغوط التضخمية في اقتصادنا لما تبقى من العام. وبصرف النظر عن الطريقة التي عرض فيها تقرير المؤسسة مسببات التضخم، فإن المهم هو أنه لم يعد في الإمكان تجاهل حقيقة وجود هذه الضغوط التضخمية بل واستمرارها، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه مؤشراتنا الاقتصادية. لأننا حينما حذرنا من بواكير هذه الضغوط وخطورتها على اقتصادنا قبل أكثر من سنتين، كانت تصريحات مسؤولي مؤسسة النقد حينها، تراوح بين إنكار وجود هذه الضغوط في بدء الأحداث، ثم تأكيد أنها مخاوف غير مقلقة، وبعد ذلك ادعوا أنها تحت السيطرة، حتى تم الاعتراف فيما بعد بجدية هذه الضغوط وخطورتها على الاقتصاد.
وبالفعل، فقد عصفت هذه الضغوط على مستوى معاش الناس وضاعفت من جراحهم التي سبق لهم أن اكتووا بها في كارثة انهيار سوق الأسهم. وأمسى واضحا أن اقتصادنا في وضع يستحق عناية بالغة ومستمرة من مخططي سياساتنا الاقتصادية: المالية منها والنقدية. ففضلا عن أثر التضخم الضار في مستوى معيشة الناس، فإنه يؤدي أيضا إلى اختلال في ميزان العدالة بين الدائن والمدين، وإلى التشويش على قرارات الادخار والاستثمار، مما يدفع إلى إيجاد حالة يتفادى فيها الناس الدخول في التزامات طويلة الأجل، وهذا ما لاحظناه واضحا في تعثر عقود المقاولات.
إن التعامل مع هذه الضغوط التضخمية لا يتطلب فقط حزمة قوية وفاعلة من السياسات النقدية والمالية الحصيفة، بل يقتضي أيضا مراقبة لصيقة لتطور اتجاهاتها من أجل تعديل هذه السياسات أو إعادة تغذيتها بما يضمن بقاء هذه الضغوط تحت السيطرة الفعلية.
ظل اقتصادنا بحاجة ماسة ليس فقط إلى قرارات وسياسات فاعلة وسريعة لمشكلاته الاقتصادية، وإنما أيضا لما هو أهم وأكثر من ذلك بكثير. فالاختناقات الحادة التي عاناها الناس هذا الصيف في خدمات المياه أو الكهرباء، والمعاناة المستمرة من التدهور الصارخ في خدمات النقل الجوي، تشير بشكل واضح إلى أن أزماتنا ما عاد يفيد معها قرارات ارتجالية وردود أفعال وقتية، وإنما هي في حاجة إلى برامج استراتيجية غير تقليدية يتم النظر إليها بمنهج جديد وفكر مختلف.
ذلك أن تقلب عوائد النفط وما ترتب عليه من تعطل مشاريع التنمية وتراجع مستوى الخدمات، يفرض علينا ما هو أهم من مجرد الانشغال بالنظر في كيفية إنفاق عوائد النفط لتمويل برامج التنمية الملحة. إننا اليوم بحاجة ماسة إلى منهج وفكر جديد وهذا لا يتأتى إلا من كفاءات مؤهلة وسواعد شابة لديها أرواح وثابة وعزائم سباقة، تستطيع أن تواجه تحديات الحاضر الكبيرة بأفكار وحلول وابتكارات جديدة تحقق لاقتصادنا ما ظللنا عقودا نحلم بتحقيقه من حيث تقليل اعتمادنا على عوائد النفط المتقلبة، لضمان قدر معقول من الاستقرار في برامج التنمية وتوافر الخدمات.
وفي تصوري، أن النقلة النوعية التي يحتاج إليها اقتصادنا وتفرضها التحديات الجسيمة لنمو السكان، هي أن نبدأ في تغيير أسلوب وطريقة إدارة عدد من الخدمات التى تعودنا أن يقوم بها القطاع العام أو شبه العام، بحيث نقدمها بأسلوب أكثر كفاءة في الإدارة والمتابعة والمراقبة، ليكون شبيها بما يجرى في القطاع الخاص من حيث قيامه على مبدأ التكلفة والعائد. وفي نظري، أن لهذه الطريقة فائدتين جوهريتين: الأولى أن نوعية الخدمات وكمية العرض المتاح منها ستتحسن بشكل كبير. والثاني وهو الأهم أن هذا الأسلوب سيضمن بقاء الخدمة واستمرارها، لأنها ستقوم على مبدأ التغذية الذاتية المستمرة لنفقاتها، متى ما بدأت. وسأتناول تطبيقات هذه الفكرة في المقالات التالية بحول الله.
نحن في حاجة ماسة إلى أفكار جديدة من أجل استغلال الطاقات الإنتاجية المذهلة والكامنة في اقتصادنا. فالاقتصاد هو عصب الحياة، وكل جهد نقوم به اليوم تفكيرا وتنظيما وتضحية، سنجني غدا ثماره الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وإن غدا لناظره لقريب!