ارتفاع تكلفة إنشاء المصافي وانخفاض ربحيتها يهددان صناعة التكرير

ارتفاع تكلفة إنشاء المصافي وانخفاض ربحيتها يهددان صناعة التكرير

حافظت معظم الدول الصناعية الكبرى على قدرة تكريرية ثابتة لم تتغير منذ عشر سنوات، فمثلاً تراوحت القدرة التكريرية للولايات المتحدة عند 15 مليون برميل يومياً، ونزلت القدرة اليابانية من خمسة ملايين برميل إلى 4.3 مليون برميل، وحافظت كل من: بريطانيا، إيطاليا، وفرنسا على قدرة تكريرية تقدر بنحو 1.7 مليون برميل يومياً.
لم تنم القدرة التكريرية للدول الصناعية الكبرى، بل انخفضت في بعض الأحيان مدفوعة بعدم النمو السكاني كما في اليابان، وبالاعتماد على بدائل الطاقة كما في أوروبا، فمثلاً تولد فرنسا أكثر من 75 في المائة من طاقتها الكهربائية بواسطة المفاعلات النووية، كما لا يمكن أن ننسى طفرة الديزل الحيوي والإيثانول كخليط لوقود السيارات. كل هذا أدى إلى عدم تصاعد الطلب على المشتقات النفطية في الدول الصناعية الكبرى OEDC.
ويعتبر من أهم التحديات التي تواجه صناعة التكرير مدى قدرتها على مواكبة التطورات والمتغيرات في العالم، وأن يكون لديها المرونة اللازمة لتدخل تطبيقات واستعمالات جديدة كلقيم لخلايا الوقود الهيدروجينية وبذلك تستطيع أن تتطور وتتغير استخداماتها بحسب الطلب والحاجة.
سجل سعر النفط الأمريكي في كانون الثاني (يناير) الماضي نحو 92 دولارا للبرميل، وأما المشتقات فسجل برميل الجازولين الممتاز 102 دولار والنافثا 96 دولارا ووقود الطائرات 110 دولارات، أما زيت الوقود المحتوى على 3 في المائة كبريت فسجل 70 دولارا للبرميل، وسجل الديزل 107 دولارات للبرميل (تقرير "أوبك" لشهر فبراير). هذه الأرقام بحسب أسعار خليج المكسيك، وهي لا تختلف كثيراً عن أسعار بورصة سنغافورة أو روتوردام إلا فيما يخص النافثا، حيث سجلت بورصة روتوردام نحو 13 دولارا لبرميل النافثا أكثر من البورصات الأخرى، وذلك لحاجة أوروبا الكبيرة للنافثا كمصدر رئيس للمواد البتروكيماوية.
تشكل هذه المشتقات (النافثا والجازولين ووقود الطائرات ـ الكيروسين وزيت الوقود والديزل) أكثر من 90 في المائة من مكونات البرميل الخام. ولتبسيط الفكرة في حساب ربحية المصفاة نجد أن المصفاة النموذجية الأمريكية تنتج 40 في المائة جازولين، 10 في المائة نافثا، 30 في المائة ديزل، 10 في المائة وقود الطائرات، و10 في المائة زيت الوقود. إذاً قيمة البرميل المكرر يساوى نحو 101 دولار، ولو تمت مقارنة هذا الرقم بسعر النفط الخام نجد أن الفارق 9 دولارات، وإذا ما تم افتراض تكلفة التكرير بثلاثة دولارات للبرميل نجد أن ربح تكرير البرميل لا يتعدى 6 دولارات، وهي أرباح غير مغرية لإنشاء مصاف جديدة، لأن المصافي الجديدة، خاصة في الوقت الراهن، تحتاج إلى رأسمال باهظ لإنشائها. كل هذا جعل المستثمرون يبحثون عن فرص أخرى أجدى لاستثماراتهم.
وقد يتبادر إلى الذهن تساؤل: هل من الأفضل الاستثمار في إضافة قدرات إضافية للمصافي، أي زيادة أحجام وإعداد أبراج التقطير أم الاستثمار في زيادة القدرة التحويلية للمصافي، أي إضافة وحدات إضافية لتكسير ناتج التكرير الثقيل إلى مشتقات أحلى وأخف؟ الحقيقة أن الاستثمار يجب أن ينصب في زيادة القدرة التحويلية للمصافي، وبذلك تزداد فاعلية المصافي ويقل استخدام النفط دون جدوى. وتقل بذلك مخرجات المصافي ذات القيمة الزهيدة وتزداد في المقابل المنتجات الغالية مثل الديزل ووقود الطائرات والجازولين الممتاز.
باختصار، تواجه صناعة التكرير في العالم عدة مشكلات حقيقية تشكل تحديات لنمو وازدهار هذه الصناعة العجوز. يمكن تحديد أهم هذه التحديات كالتالي:
* المشكلات الصحية والبيئية، وهذه تتعلق بنسب المواد الضارة في المشتقات، ومنها نسب الكبريت في الديزل والجازولين ونسب المواد العطرية خاصة البنزين العطري بالجازولين وغيره. ترتب على نزع هذه المواد الضارة من المشتقات زيادة قيمة الاستثمار اللازمة لإنشاء وتشغيل المصافي.
* ظاهرة الاحتباس الحراري، وهذه الظاهرة مرتبطة بانبعثات غازات الكربون والتي تؤدى إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض.
* صعود تكاليف إنشاء وهندسة المصافي EPC، والحقيقة أن هذا الارتفاع قد أبطأ كثيرا من المشاريع التكريرية وخلط الكثير من الأوراق، وأحد أهم أسباب هذه الارتفاعات هو ارتفاع قيمة المواد الأولية مثل الفولاذ الذي يستخدم بكثرة في إنشاء الوحدات الصناعية والأيدي العاملة الماهرة، وكذلك إلى ارتفاع أسعار الشركات الاستشارية العالمية التي تقوم على إدارة مثل هذه المشاريع وذلك لكثرة الطلب عليها. وكدليل على ذلك، ارتفعت تكاليف إنشاء مصفاة الزور في الكويت إلى الضعف، ما أسهم في الكثير من الإرباك وكذلك يتوقع الكثير من المراقبين أن تصعد تكلفة المصفاة المزمع إنشاؤها في الجبيل بالشراكة مع شركة توتال الفرنسية من 6.5 مليار إلى 12 مليار دولار، وكذلك يتوقع الكثير أن ترتفع المصفاة المزمع إقامتها مع "كونوكو فيلبس" في ينبع إلى نحو 13 مليار دولار، مع أن التقديرات الأولية كانت بحدود سبعة مليارات دولار، وهذا الارتفاع الكبير في تكلفة المشروع أوجد الكثير من اللغط حول استمرار "كونوكو فيلبس" في المشروع.
* صعود أسعار النفط، وكلما زاد سعر النفط الخام قل هامش الربحية على سعر المشتق النفطي. فمثلا عندما كان سعر برميل الخام 12 دولارا عام 1998 م كان هامش الربح على الجازولين أكثر مقارنة بسعر برميل الخام عند 100 دولار، وذلك لأنه لا يمكن أن يرتفع سعر الجازولين أكثر من مدى محدد عندها يصبح شراؤه صعبا على الناس ويقل استهلاكه وتصاب صناعة المصافي بالكساد. وخلال الأشهر الستة الأخيرة قلّ هامش ربحية صناع التكرير في الولايات إلى النصف، وهذا أمر لا يعتبر صحياً لهذه الصناعة.
* ظهور البدائل الطبيعية المتجددة مثل الديزل الحيوي والإيثانول.
* ظهور البدائل الأخرى مثل تحويل الغاز الطبيعي إلى ديزل عالي الجودة وكذلك تحويل الفحم الحجري إلى سوائل تستخدم كوقود.
الحقيقة أن كل ما تم ذكره من شأنه أن يجعل المستثمرين يترددون في استثماراتهم في بناء مصاف جديدة. صناعة التكرير لوحدها غير مغرية ما لم تكمل بالمجمعات البتروكيماوية، ولذلك كثرت الشائعات بشأن جدية "كونوكو فيليبس" بشأن مشاركتها في إقامة مصفاة ينبع حتى تم إعلان نائب الرئيس لشؤون التكرير والتسويق والأعمال الدولية في"أرامكو السعودية"، أن المشروع يمضي قدماً في كل من ينبع مع "كونوكو فيليبس" والجبيل مع "توتال". ومن الأشياء التي تجسد هذا الطرح ما تم تناقله من أن "توتال" تنوى أن تضيف إلى مصفاتها بعض الوحدات البتروكيماوية لجعل المشروع مغريا ومجديا اقتصادياً للجميع.

* خبير في شؤون تكرير النفط والبتروكيماويات
* [email protected]

الأكثر قراءة