متى تتدخل الدولة لحماية النظام المالي؟
متى يكون للدولة الحق في التدخل لحماية إحدى المنشآت المالية من الانهيار؟ هل الدولة ممثلة في البنك المركزي مخولة لحماية أي منشأة مالية من الانهيار؟ وكيف نحدد الخطر الذي يستدعي التدخل؟ كل هذه أسئلة مشروعة تبحث عن إجابات لها داخل النظام المالي لأي دولة. وتحديدها يلعب دوراً مهماً في تحقيق الاستقرار المالي وتحقيق التقدم والازدهار الاقتصادي. المشكلة تكمن في تعقد هذا الدور وتشعبه، لأنه يعتمد في الدرجة الأولى على التقدير الشخصي، وليس الكمي لحجم المخاطر المحدقة بأي منشأة مالية. والأكثر تعقيداً فيما يتعلق بتدخل الدولة لحماية النظام المالي هو تحديد (الخط الفاصل) لما يمثل مخاطر فعلية تهدد النظام المالي ككل تستدعي تدخل السلطات المالية في الدولة وبين ما يمثل مخاطر يقتصر أثرها في المنشأة أو القطاع الذي تعمل فيه تلك المنشأة المالية. فهذا الخط الفاصل وإن بدا واضحاً من حيث المبدأ، إلا أنه من حيث التطبيق غير واضح المعالم ويخضع كما ذكرت وبشكل كبير للتقدير والجدل الشخصي. إضافة إلى أن خبرات الدول الأخرى لا تخبرنا الكثير عن هذا الخط الفاصل الذي يبرر التدخل الحكومي، ما يعني أنه لا يمكن اعتماد الخط الفاصل والمعايير المحددة في دولة ما كمعيار لدولة أخرى، نظراً لاختلاف الخصائص الاقتصادية لكل دولة. فما يشكل خطراً يهدد النظام المالي في الولايات المتحدة قد يشكل خطراً أكبر في المملكة بالنظر إلى تميز الولايات المتحدة بالتنوع الاقتصادي الذي يمكنها من تحمل صدمات مالية أقوى مما تتحمله أي دولة أخرى.
لكن هناك نقطة يتفق عليها الاقتصاديون وهي أن الدولة يجب أن تتدخل في حال تعرض النظام المالي أو أحد أجزائه إلى خطر قد يؤدي إلى نتائج سلبية على الاقتصاد ككل، كزيادة في معدل البطالة وتباطؤ اقتصادي، وانهيارات في قطاعات الاقتصاد الأخرى كالتي حدثت إبان أزمة الكساد الكبير في الولايات المتحدة عام 1929. ومع ذلك، فإن هذا التعريف وإن وضعت خطوطه العريضة إلا أن تطبيقاته العملية تظل موضع جدل دائم. فكما هو الحال حالياً في الولايات المتحدة التي تتميز بأكثر النظم المالية تنوعاً وتقدماً. دار جدل كبير حول تدخلات الاحتياطي الفيدرالي في الأزمة المالية الحالية لانتشال بيرن ستيرنز بضمان عملية تملك جي بي مورجان له خلال العام الماضي، وبقبول سندات الرهن العقاري كضمان لقروض الاحتياطي الفيدرالي، التي منحت أيضاً للمؤسسات الاستثمارية ، وأخيرا في عملية تفويض الكونجرس لوزير الخزانة للتدخل بشراء حصة في مؤسستي الإسكان العريقتين فاني ماي وفريدي ماك في حال تعرضهما لمخاطر قد تهدد النظام المالي. إذ إن المسألة انطوت على تحويل مخاطر الخسائر من تلك المؤسسات المالية إلى ميزانية الاحتياطي الفيدرالي أو إلى وزارة الخزانة الأمريكية، ما يعني تحويلها في النهاية إلى دافع الضرائب (المواطن).
لكن رئيس الاحتياطي الفيدرالي برر التدخل في احتواء أزمة بيرن ستيرنز، على الرغم من أنه بنك استثماري خاص، ولم يتعرض لمخاطر جري المودعين الأفراد، بأنه كان سيؤدي إلى بطالة عالية ومشكلات ستؤدي في النهاية إلى التدخل الحكومي. لكن المشكلة أن أثر ذلك التدخل الحكومي لحماية النظام المالي ممثلاً في المؤسسات المالية كالبنوك والمؤسسات الاستثمارية لن يقتصر أثره على تحميل دافعي الضرائب أو ميزانية الدولة بالنتائج السلبية لتصرفات مسؤولي تلك المؤسسات، لكنه سيؤدي في المستقبل إلى ظهور مشكلة خطر أخلاقي Moral Hazard يتمثل في تأمين ضمني لتلك المؤسسات المالية. وهذا الأمر يشجع تلك المؤسسات المالية إلى زيادة مخاطر محافظها المالية أملاً في الحصول على عوائد مالية أكثر. وهذا الأمر أيضاً يزداد تعقيداً مع الأخذ في الحسبان المنافسة بين المديرين التنفيذيين ومديري الصناديق الاستثمارية لتلك المؤسسات المالية من أجل تحقيق نتائج أفضل الأمر الذي سينعكس بالإيجاب على القيمة التنافسية لهؤلاء المديرين أو قيمة عوائدهم المالية. وهذا قد يؤدي ببعض المديرين إلى تبني مخاطر أعلى فقط لتلميع صورتهم المهنية واستحصال منافع شخصية.
ولكن ماذا عن الوضع بالنسبة للمملكة؟ هل المملكة بمنأى عن مخاطر انهيارات البنوك، ما لا يستدعي ذلك القلق بشأن تحديد الخطوط الفاصلة لمعنى وتوقيت التدخل الحكومي؟ طبعاً المملكة كغيرها من الدول ليست بمنأى عن مثل تلك الأزمات، بل إنها شهدت مثل تلك الأزمة في الستينيات الميلادية عندما وضع كل من بنك الرياض والبنك الوطني تحت وصاية مؤسسة النقد نتيجة لاقتراض أعضاء مجالس الإدارة في البنكين مبالغ مالية ضخمة أكبر مما تتحمله المحفظة الائتمانية للبنكين وفشلهم ورفضهم سداد تلك المبالغ. والنتيجة كانت حيازة مؤسسة النقد للبنكين ودمجهما، ما انطوى على تحويل الخسائر إلى المحفظة المالية للمؤسسة. هذا المشهد تكرر ولكن بصورة أخرى من خلال تملك مؤسسة النقد لنسبة كبرى من بنك الخليج الدولي بلغت 37.6 في المائة، ما رفع حصة المملكة في البنك إلى ما يتجاوز الـ 54 في المائة، وذلك في أعقاب تحقيق البنك خسائر في سندات الرهن العقاري تجاوزت 757 مليون دولار أو ما يمثل نصف رأس المال في حينه. في المقابل لم تتدخل المؤسسة أو غيرها لانتشال سوق الأسهم السعودية من خسائر شباط (فبراير) 2006 على الرغم من أن تلك الخسائر لا تمثل خسائر في محافظ المستثمرين الأفراد فقط، ولكنها تمثل خسائر كبيرة للدولة بحكم استثمارها من خلال الصناديق الحكومية في كل الشركات المساهمة تقريباً، ما يعطي انطباعا أنه لا يوجد أصلاً ذلك الخط الفاصل بين ما يشكل مخاطر شاملة وحقيقية تهدد النظام المالي تستدعي التدخل وبين ما يشكل خطراً يقتصر أثره على مؤسسة مالية أو أكثر من المؤسسات المالية في الدولة.