لندعم الدراسات الاجتماعية إذا أردنا تحقيق الأمن الفكري
لا يزال المجتمع في حاجة إلى مزيد من المتخصصين في كثير من العلوم والتخصصات، وذلك لتلبية حاجة سوق العمل التي تستقطب - في الوقت الحاضر- أكثر من ستة ملايين فرد من خارج المملكة، ووجود مثلهم من القوى العاملة السعودية في حاجة استمرار تطوير مهاراتهم وقدراتهم أينما كانوا. ربما لا يشكك أحد في أن التخصصات الصحية تشكل أولوية قصوى، ولكن لئلا نسير ونحن نعاني من قصور هنا أو هناك، فكثير من التخصصات العلمية الطبيعية، وبعض التخصصات النظرية وبالذات التخصصات المتفرعة من العلوم الاجتماعية والإنسانية لها أهمية كبيرة أيضا عندما نفكر في صياغة فكر المجتمع. في بحث سريع لحجم الاعتماد على الدراسات الاجتماعية في شؤوننا التعليمية والعملية والخدمية وجدت أن هناك تواريا لهذا المجال وظهور نزعات وتوجهات أخرجت الكتاب من أبراجهم وأصحاب الأقلام من تواريهم ليكتبوا في مشكلات المجتمع المؤثرة في مسيرتنا التنموية. لقد وجدت أسئلة تطرح دون إجابة علمية شافية، وقد شدتني عدة أسئلة كان منها: لماذا ابتعد طلاب العلم والبحث عن الالتحاق بهذا المجال؟ ولماذا لم نحقق الفائدة منه؟
لن أجاري الأساتذة فيما نشروه علميا وإعلاميا ولا المختصين فيما أشاروا ونوهوا عنه، ولكن أستطيع القول إن الدارسين لعلم الاجتماع التحقوا به، لأن النسبة لم تسعفهم ولأن الأسابيع الإرشادية غائبة. من ناحية أخرى، تعلقنا بمصطلح "حاجة سوق العمل" ولم نهتم كمسؤولين بأنه مجال حيوي وفاعل ومؤثر، فاضمحل دعم البحوث في العلوم الإنسانية والاجتماعية وأصبح الطلب نادرا على خريجي هذه التخصصات وتوالت المشكلات الأخرى. إن العلوم الاجتماعية والإنسانية تقدم للإنسان أفضل خدمة إذا ما تمكن من فهم ما حوله وبدأ في تحقيق الحياة الكريمة له عبر بناء فكره وثقافته فيما يعود عليه وعلى المجتمع بالخير المادي والمعنوي, فنحن حين نعد الشباب ليكونوا قادرين على فهم مجتمعاتهم المحلية وأوطانهم والعالم من حولهم فيتوجهوا لدراسة العلوم المختلفة، كما هم متجهون الآن لدراسة الاقتصاد والطب والإعلام فسيدرك المجتمع بعد حين أن الجهود لم تضع سدى، لأننا في كل واد لنا "ولد". هذا سيمكننا من دعم الدراسات الاجتماعية الدقيقة والمتنوعة في مختلف الفروع ويبرر وجود العديد من مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية والمستقبلية كما يحصل في كثير من الدول المتقدمة التي وعت أهميتها منذ عقود مضت. في الحقيقة قرأت مرة أن التغيير الاجتماعي والثقافي قد يسير في اتجاه مخالف لصالح المجتمع إذا ما غابت الدراسات الوطنية الاجتماعية عن قضايا ومشكلات المجتمع التي يعاني منها أو لم تنشر للإفادة منها. في مجتمعاتنا كثير من القضايا الاجتماعية والتنموية لا تحظى ـ للأسف ـ بالاهتمام الكافي ليس في المملكة فحسب، بل في معظم الدول العربية، فنجد دائما صرخة هنا واستجداء هناك وقلقا دائما من تطور هذا التوجه أو ذاك الفكر، ما جعلنا نقترح حلولا هي في واقعها مؤقتة لأنها لم تدرس كفاية ولجأنا للحل السريع لتفادي تعاظمها, وما تفاقم كثير من المشكلات، إضافة إلى ظهور العنف في المجتمعات العربية والإسلامية إلا دليل على عدم تفعيل دراسات العلوم الاجتماعية ودعمها بالشكل المطلوب لفهم المجتمع ورصد التغيرات التي يشهدها والتحولات التي يعيشها، ومن ثم اقتراح العلاج الناجع لها.
لا يمكن من جهة أخرى أن أخلي ساحة العلماء والباحثين في هذا المجال من المسؤولية، فالكثير اهتم بالأبحاث الأكاديمية ونسي أو تناسى إجراء الدراسات الاستطلاعية التي ترصد بعض الإرهاصات لبعض المشكلات، وتُبرز الاتجاهات الفكرية والثقافية والاجتماعية لدى فئات المجتمع المختلفة وأهمها الشباب. أقول ذلك لأنه حينما تسنح الفرصة ويصبح الاهتمام ملزما لإيجاد الحلول فإن البيانات المجموعة والعينات المدروسة ستوفر قاعدة علمية كبيرة للدراسات المدعومة التي حتما ستقود إلى وضع الحلول في أقصر وقت ممكن وبشكل منهجي ومؤثر وهو ما لم يحسب حسابه في كثير من القضايا. الفجوة الآن قد تُدخل من له لسان وليس له باع, وبالتالي قد ننتهي بعبارة "وهذا المستطاع"!, وحينها ستُسفه الأعذار ويفقد الكبار الوقار جراء تطاول غير المختصين وكثير من الصغار.
إن ما يحصل يدل على انشغالنا بالأمور الآنية على حساب المستقبل، والقضايا المرحلية على حساب الرؤية الاستراتيجية، ما يعني غياب التصور الشامل لمستقبل المجتمع الذي يشهد تغيراً تقنياً يؤثر كثيرا في شؤونه الاجتماعية, فهل لعلمائنا الأفاضل أن ينبروا للمشكلات الاجتماعية, وللمسؤولين والإعلاميين دعم توجههم لما فيه خدمة الوطن؟
في اعتقادي لا بد من إنشاء مراكز للبحوث المتخصصة في مجالات العلوم الاجتماعية مع دعم الموجود منها. هذا يعني إعداد الباحثين المميزين ودعمهم لإجراء الدراسات العلمية التي تسعى إلى فهم المجتمعات واستشراف مستقبلها. كما يعني تسهيل الحصول على البيانات المتعلقة بالإنسان وشؤونه، سواء من خلال جمعها مباشرة من المجتمع، أو الحصول عليها من الجهات الحكومية والقطاعات الخاصة مع الاهتمام طبعا بنظامية الإجراء. أعتقد أن دعوة كبار المختصين ـ حتى ولو كانوا متقاعدين ـ لإلقاء المحاضرات وعقد الندوات وإشراكهم في رسم الخطط مع الشباب المتحمس الأمين سيغير من نمط أساليب البحث ومنهجياته بما يحقق الغرض منها على أرض الواقع, ويسهم في تنظيم المجتمع وحفظ تراثه ورفع المستوى الحضاري دون تهميش لأي عامل أو عنصر يمكن أن يؤثر في إعادة صياغة فكر المجتمع والتأثير في اتجاهاته. والله المستعان.