زمن العولمة
ما بين المغامرة التي قام بها مستثمر مغمور في مطلع العام ودفع بموجبها سعر برميل النفط إلى الحاجز النفسي 100 دولار كلفته خسارة 600 دولار، والأسبوع الماضي تقلب السعر مضيفا 10 في المائة. وخلال السنوات القليلة الماضية تجاوز سعر البرميل العديد من الحواجز النفسية: 50 دولارا ثم 60، 70، 80 و 100 دولار، الأمر الذي جعل السقف مفتوحا لتصاعد سعر البرميل، ولم يعد مستغربا أن يصل إلى أي معدل. وهذه إحدى ملامح الصدمة النفطية الحالية. فالصدمة، بجوانبها السلبية والإيجابية بالنسبة للمنتجين والمستهلكين، تعتبر الثالثة من نوعها التي تصيب السوق، لكن في المرتين السابقتين كان هناك إطار يمكن توقع تحركات الأسعار في إطاره، وهو ما يبدو غائبا هذه المرة.
الملح الثاني أن الارتفاع المستمر في الأسعار دخل عامه الخامس هذه المرة وليس في الأفق ما يشير إلى أنه بدأ يستنفد طاقته. ففي الصدمتين السابقتين في عقد السبعينيات لم تستمر دورة الارتفاع في الأسعار لأكثر من عامين.
الملح الثالث ان دورة الارتفاع السعري الحالي لم تنجم عنها عمليات استحواذ كبيرة كما شهدتها فترات سابقة. فالمعلومات المتاحة تشير إلى أن أكبر تحرك في هذا الاتجاه شهده العام الماضي جاء من قبل شركة "روزنفط" الروسية، التي أبرمت عمليات استحواذ بقيمة تتجاوز 22 مليار دولار، تركزت معظمها على الشركات التابعة والفرعية من العملاق الروسي السابق "يوكوس"، التي استهدفها الرئيس فلاديمير بوتين في إطار استراتيجيته بأحكام سيطرة الكرملين على الصناعة النفطية وتسخيرها لصالح إعادة موقع روسيا على خريطة النفوذ العالمي. وباستثناء ذلك فهناك عمليات الاستحواذ التي قامت بها الشركة الإيطالية "أيني" بقيمة 13 مليار دولار.
عمليات الاستحواذ لا تجد بالضرورة في ارتفاع سعر البرميل حافزا للتحرك، بل قد يكون انخفاض الأسعار حافزا أكبر لأنها تتمكن حينها من الحصول على أصول لشركات عاملة بسعر أقل. لكن يبقى الأساس أن هذه الشركات تضع على رأس أهدافها الحصول على أصول الشركات التي تتم السيطرة عليها عبر عمليات الاستحواذ، ومن بين تلك الأصول الاحتياطيات النفطية والغازية للشركة المعنية. ويلاحظ في الأرقام الخاصة بالأداء للعام الماضي أن الاتجاه العام يشير إلى عدم قدرة الشركات على تعويض الكميات التي قامت بإنتاجها.
وهذا أحد الأسباب الدافعة التي تحرك سعر البرميل إلى أعلى ولو بصورة غير مباشرة، إذ يعطي الإحساس حقيقيا كان أو متوهما بإمكانية حدوث أزمة إمدادات. وفي واقع الأمر فإن جذور هذا الوضع تعود إلى حقبة السبعينيات عندما سيطرت الدول المنتجة على صناعتها النفطية وأبعدت بمختلف الصيغ الشركات الأجنبية عن الوصول إلى تلك الاحتياطيات. لكن عدم الشركات الأجنبية إلى الاحتياطيات النفطية في الدول المنتجة، لا يعني بالضرورة احتمال حدوث نقص في الإمدادات. ويظهر هذا في أن دراسة حديثة لرابطة مؤسسة كامبريدج لأبحاث الطاقة أن نسبة معدل التراجع في أنتاج الحقول تظل في حدود 4.5 في المائة سنويا، وهو ما يقل عن النسبة التي كانت معروفة في السابق.
لكن يظل النمو في الطلب مستمرا وفي حدود مليون ونصف المليون برميل يوميا كل عام. وفي الوقت الذي يبدو فيه أن الإمدادات قد لا تتجاوز 100 مليون برميل يوميا لأسباب عديدة من بينها ان الاحتياطيات الجديدة توجد في مناطق نائية ويصعب العمل فيها كأعماق البحار، هذا بالإضافة إلى التصاعد المستمر في كلفة الاستخراج بنحو 10 - 15 في المائة سنويا.
لكن في المقابل فإن الطلب يتوقع له أن يتجاوز هذا المعدل خاصة بعد العام 2015. أحد الأسباب لذلك دخول مستخدمين جدد من الدول النامية لمختلف وسائل الطاقة خاصة في الدول الآسيوية بقيادة الصين والهند والدول المنتجة نفسها في منطقة الشرق الأوسط تحديدا. وربما يكون هذا هو التفسير الرئيس حول لماذا لم يتراجع الطلب بصورة واضحة رغم الارتفاع القياسي في السعر سواء اسميا أو فعليا. فرغم الارتفاع المستمر في السعر، إلا أن الكثير من المحللين ظلوا يشيرون إلى أنه لم يصل بعد إلى السعر الذي بلغه سعر البرميل في ربيع عام 1980 مع أخذ عنصر التضخم في الحسبان، لكن أخيرا تم ذلك التجاوز بعد تخطي حاجز 105 دولارات للبرميل.
والغريب أنه رغم الهواجس الخاصة بالإمدادات، إلا أن الارتفاع في سعر البرميل جاء في الوقت الذي تتوفر فيه الإمدادات حيث يشير مسؤولو الدول المنتجة أنه ليس هناك نقصا في الإمدادات. وأن ما تشهده السوق النفطية تشهده أسواق أخرى مثل الحبوب حيث وصل سعر طن القمح إلى معدل قياسي رغم الإنتاج غير المسبوق في مجال الحبوب. وفي الحالين ينبغي أن ينصرف الانتباه إلى دخول أعداد متنامية من المستهلكين الجدد، وهذه أحد أوجه العولمة التي بدأت في تغيير أسس اللعبة السائدة منذ عدة قرون.