عندما يكون الخلل في أعظم ثروة تملكها المملكة !!!
"في ظل الأجواء الغائمة التي تبدو للوهلة الأولى غير مشجعة لأي جهد بشري، تطوف هذه الزاوية كل أسبوع ببقاع متفرقة دون أن تتقيد بحدود جغرافية لترصد اختلالات متنوعة تدرسها وتعالجها أملا في أن يكون الخلل مفتاحا للصواب".
أكاد أزعم أن الموضوع الذي أريد الحديث عنه في زاوية اليوم لهو من أصعب الموضوعات التي خضتها لتعدد العقبات في الدخول إليه. فالحديث يدور حول عادات وسلوكيات أفراد المجتمع السعودي، وهل هذه السلوكيات هي نتاج لظروف اقتصادية واجتماعية صعبة يعيشها؟ وقبل الحديث عن هذا الموضوع، إليكم بعض السلوكيات التي واجهتها من أفراد سعوديين في يوم واحد، والتي ربما تعكس - في هذه الأيام - الشخصية السائدة في مجتمعنا. ونحن إذ نطرح مثل هذه العادات والسلوكيات إنما نقصد معرفة شخصيتنا كسعوديين ومن ثم استغلال ما في هذه الشخصية من معلومات لإحداث التغيرات الإيجابية اللازمة والضرورية في هذا المجتمع، وليس لإضعاف الروح المعنوية لهذه الشخصية.
ولنبدأ بالتعرف على هذه السلوكيات بخروجي من المسجد بعد صلاة الفجر، حيث وقف أحدهم عند باب المسجد يريد الصدقة، وفيما هو منهمك في سؤال الناس إذ بشخص بجواره يعرفه جيدا ينتقده قائلا له "ألست بصحة وعافية؟ ولديك من المال ما يكفيك لأن تعيش في أحسن حال، عليك أن تخجل من نفسك ومن هذا السلوك". فما كان من ذلك المتسول إلا أن رد على هذا الرجل الوقور وبصوت عال "خلك في حالك". هذا السلوك تشاهده وبكثرة من عدد كبير من الناس في المساجد وأمام بيوتنا وعند إشارات المرور. بعد ذلك بدأت بتوصيل أبنائي إلى مدارسهم، وأثناء انتظاري عند إحدى إشارات المرور نظرت إلى اليمين وإذا بسيارة واقفة في أقصى اليمين في انتظار الإشارة الخضراء أن تضيء. إن أحدهم أراد أن يتجه يمينا فحاول صاحب السيارة الأمامية أن يترك له فتحة يمر من خلالها فلم يستطع. وفيما هو منهمك في انتظار الإشارة، إذ بمن يريد الاتجاه يمينا يقترب منه شيئا فشيئا لحين ملاصقة سيارته السيارة الأمامية ليدفعها بهدوء للأمام ومن ثم الانطلاق من خلال تلك الفتحة التي أوجدها له وكأن شيئا لم يكن. بعد قليل اتصل بي أحد الزملاء وأنا في طريقي بالقطار إلى مدينة الدمام، وفي ثنايا حديثنا أخبرني ذلك الزميل عن حادثة سرقة واعتداء وقعت لشخص ما وهو في سيارته أمام إحدى صرافات البنوك. ما حدث بالضبط هو أن ذلك الشخص عند الانتهاء من سحب ما يريده من مال، إذ بمجموعة من الشباب العاطل يلتفون من حوله ويسطون على ما بحوزته من مبالغ، ويجبرونه كذلك على سحب ما يستطيعه ببطاقاته المختلفة، ثم الاعتداء عليه بالضرب ورميه في الشارع. بعد قليل وصلت وبحمد الله إلى مدينة الدمام ونزلت من القطار باحثا عن سيارة أجرة توصلني إلى وكالة إحدى الشركات الكبيرة لتسلم سيارتي التي أرسلتها للصيانة. نزلت وإذا بأصحاب سيارات الأجرة السعوديين وغير السعوديين ينتظرونني، وبالطبع ولهدف معين آثرت أن أركب مع السعودي الذي سألني منذ البداية "تريد مشوار خاص بمفردك؟ أم أحمل معك شخص آخر"؟ قلت له..لا.. أريد أن أكون بمفردي ولا مانع من دفع 25 ريالا كما أمرت. ركبت السيارة وخرجنا من سكة الحديد وعند أول شارع أشار إليه شخص ما فتوقف أخونا صاحب التاكسي وفاوض وساوم، واتفقا على المكان والأجرة، وأركب ذلك الشخص السيارة وكأنني لست موجودا. وصلت إلى الوكالة وبسبب المشوار الخاص لذلك الزبون كان وقت الصلاة قد دخل فأغلقت الوكالة أبوابها عند الساعة الثانية عشرة حتى الواحدة. كان هناك مسجد صغير يصلي فيه العاملون في الوكالة ومن هم في انتظار سياراتهم فدخلت أصلي صلاة الظهر. عندما دخلت وجدت ثلاثة أشخاص، اثنان منهم يصليان في مؤخرة المسجد، والثالث في الصف الأول يتحدث بالجوال بصوت عال للغاية وكأنه يتخاصم مع شخص ما. قلت له وبكل أدب "الإخوة يصلون بالخلف..." وقبل أن أكمل كلامي رد علي وبعنف "تحدث إليهم هم فقد كانوا يتحدثون وأنا أصلي". قلت له "ولكنك رجل ملتح وفي بيت الله". قال "أنت لم تسمعهم...تحدث إليهم ولا تتدخل". قلت له "يا أخي ادفع بالتي هي أحسن". قال وبصوت عال "روح تحدث إليهم ولا تفتي... روح". هنا تركته وشأنه ثم صليت صلاة الظهر وجلست في المسجد منتظرا لحين فتحت الوكالة أبوابها الساعة الواحدة ظهرا. ذهبت إلى قسم الصيانة لتسلم السيارة وكان هناك ما يقارب الثمانية من الشباب السعوديين العاملين بقسم الصيانة أحدهم ذلك الرجل الذي قابلته في المسجد. سألت أحدهم عن إجراءات تسلم السيارة قال تفضل لحين يأتي الموظف الهندي بالو. المنتظرون كثر وجميعهم ينتظرون بالو وكومار وساجي. أما الشباب السعودي فهمومهم مختلفة وأحاديثهم أيضا مختلفة وليست ذات علاقة بأعمال الصيانة. وبفضل من الله ثم من بالو تسلمت السيارة وتوجهت عائدا إلى الأحساء التي تبعد 150 كيلو مترا عن مدينة الخبر تقريبا. وفي عودتي وعلى ذلك الطريق - يقال إنه أكثر طرق المملكة ازدحاما بعد طريق جدة - مكة ـ المتقطع دائما والذي حصد الآلاف من الأبرياء ترى العجب العجاب. أحدهم يخرج عليك من اليمين، والآخر يتجاوز من اليسار على التراب، والثالث يدفعك دفعا من الخلف حتى تفتح له الطريق بالقوة، والرابع يرمي بقارورة البيبسي من النافذة فتصيبك أو تصيب غيرك، والكل يدفع هذا بذاك حتى تصل - وقد أنهكت تماما - مدينة الأحساء فتشكر الله على الوصول. بعد ذلك يبدأ مشوارك الثاني إن كنت تسكن في الجهة الأخرى من المدينة لتقطع مسافة 20 كيلو مترا في ساعة أو أكثر من ساعة بسبب رداءة الطرق وضيقها. هذه أحداث وسلوكيات أفراد المجتمع السعودي في نصف يوم، وعليكم أعزائي الكرام وبسبب عدم الإطالة إكمال أحداث النصف الآخر من اليوم.
نعود مرة أخرى للسؤال الذي طرحناه في البداية حول العلاقة بين عادات أفراد المجتمع السعودي وما إذا كانت هذه العادات والسلوكيات مرتبطة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة في المجتمع. لا شك أن العادات والسلوكيات السائدة في مجتمع ما مرتبطة بشكل كبير بالفكر والثقافة التي يؤمن بها أفراد ذلك المجتمع. غير أن هذه السلوكيات التي يستحسنها كثير من الناس هي أيضا نتاج ظروف اجتماعية واقتصادية يعيشها ويعاني منها ذلك المجتمع والأفراد الذين يعيشون فيه. فقد تكون بعض السلوكيات مرفوضة في فترة زمنية معينة وبسبب الضغوط الاجتماعية والاقتصادية يحدث نوع من الاختلال في العادات والقيم التقليدية التي كانت سائدة، فتهتز وتضطرب المعايير ويفقد ما كان معروفا لدى الناس ويرتضونه من سلوكيات إيجابية. إن كثيرا من أفراد المجتمع السعودي يمرون اليوم بظروف اجتماعية واقتصادية قاسية، فبعد استقرار اجتماعي واقتصادي نسبي في السنوات القليلة الماضية حدثت تغيرات سريعة في البنى الاجتماعية والاقتصادية نتيجة عوامل عديدة، يأتي في طليعتها الثروة النفطية الهائلة التي أفرزت واقعا جديدا ليس بمقدور الكثيرين مسايرته أو التعامل معه. إن الثروة النفطية الهائلة وما صاحبها من إنفاق بذخي وارتفاع متزايد في الأسعار أدى إلى تمايز حقيقي في البناء الطبقي للمجتمع، كما أدى كذلك إلى تآكل الطبقة الاقتصادية الوسطى في المجتمع السعودي وانقسم المجتمع بذلك إلى طبقتين اثنتين, طبقة ثرية بل فاحشة الثراء استفادت فائدة جمة وازدادت ثراء وتتمتع بوضع اجتماعي واقتصادي مزدهر، وطبقة أخرى سلوكها الاجتماعي قد تغير من الرضا والقبول بالقليل إلى الميل نحو تقليد الطبقات الأكثر يسرا فأصبحت أقرب إلى الفقر والنظر إلى نفق لا ضوء فيه مليء بالهموم والمتاعب.
إن الظروف الاجتماعية والاقتصادية السائدة في مجتمعنا هذه الأيام لا بد أن تحدث اختلالا كبيرا في القيم وفي السلوكيات والعادات. كما أن هذا الاختلال وقد حدث ليس من اليسر وليس من السهولة إزالته. إن القيم والعادات السلبية قد انتشرت وتعارف عليها الأغلبية من الناس، وبالتالي لا بد من المبادرة والدفع بهذه القيم إلى الخلف سواء من قبل المستخدم لهذه العادات أو من قبل المنتج لها.