صداع مزمن في رأس المواطن العربي
العنوان مقتبس من قضية الغلاف لمجلة "المجلة" في العدد رقم 1484 للأسبوع الثالث من شهر رجب الماضي والذي طرح موضوع تدني إنتاجية المواطن العربي. فحسب المجلة فإن إنتاجية المواطن العربي تساوي ما نسبته 11 في المائة من إنتاجية نظيره الياباني وما نسبته 12.5 في المائة من إنتاجية المواطن الأوروبي، لكني أعتقد أن معد التقرير أخطأ في اختيار العنوان لأن الصداع الفعلي ليس في رأس الحكومات العربية، ولكنه في رأس المواطن العربي الذي يكتوي كل يوم بنتائج السياسات الإدارية والاقتصادية التي تؤدي إلى ضعف الإنتاجية. لأنه لو كانت هناك إرادة حقيقية صادقة لزيادة إنتاجية المواطن العربي (خصوصاً في القطاع العام) لكانت هناك مبادرات حقيقية تعكس هذا الصداع، فمن يحس بالصداع سيبحث عن مسكنات لتسكين الألم. لكن الواقع أن المسؤول العربي يضع في سلم أولوياته نقطتين رئيستين: الأولى إنجاز العمل بأي طريقة ودون اعتبار لمقاييس الكفاءة الإنتاجية. والثانية العمل على ترسيخ وجوده الزمني وتعظيم مصالحه الشخصية. لذلك تجد في دوائر العمل العربي ظاهرة متميزة دائماً: فمن جانب هناك موظفون يضطلعون بأكثر المهام الوظيفية ويعتمد عليهم المسؤول بشكل كبير وهم قلة. وآخرون عاطلون عن العمل يقضون أوقاتهم بين قراءة الصحف اليومية والقيام ببعض المهام التي لا تتطلب دقائق معدودة وهم السواد الأعظم.
إن التغيير لا يأتي إلا بالمبادرات الجادة، وتلك المبادرات لا تولد إلا من رحم القيادات الإدارية المتميزة. ودبي، بما حباها الله من تميز عن عالمنا العربي في كل شيء حتى في الإنتاجية. فدبي لا تقود نفسها نحو الريادة في (مجال الإدارة الحكومية) والمفروض أن يكون في هذا فائدة لمن تعودوا على (النسخ واللصق) وتركوا المبادرة لدبي. ففي مجال الحكومة الإلكترونية، وهي إحدى أهم الوسائل لزيادة الإنتاجية، قادت دبي، لا الإمارات وحدها، ولكن جميع الدول العربية في تبني تلك المبادرة والتي تحولت إلى حقيقة وواقع. فحسب تقرير مجلة "المجلة" بلغت نسبة الخدمات الإلكترونية التي تقدمها حكومة دبي 90 في المائة من إجمالي الخدمات الحكومية المقدمة في حين شارفت بعض الدوائر الحكومية على التحول الكامل إلى الخدمات الإلكترونية. وبالنظر إلى حصيلة الدفع الإلكتروني كمؤشر على نمو الخدمات الإلكترونية المقدمة نجد أنها بلغت عام 2007 في دبي 230 مليون درهم لما يقارب 230 ألف عملية، في حين لم تتجاوز حصيلتها الـ 130 ألف درهم لـ 205 عمليات في عام 2003، بما يمثل قفزة كبيرة خلال فترة لم تتجاوز أربع سنوات. هذا يجعلني أراهن على أن إنتاجية الموظف (سواءً الحكومي أو الخاص) في دبي تفوق بشكل كبير نظيره في الدول العربية الأخرى.
وهذا الأمر - مبادرة الحكومة الإلكترونية بدبي - انعكس في تبوؤ الإمارات المرتبة 32 على مستوى العالم والأولى بين الدول العربية في تصنيف مؤشر جاهزية الدول في مجال الحكومة الإلكترونية e-Government Readiness Index 2008 والذي تصدره شبكة الإدارة العامة بالأمم المتحدة United Nations Public Administration Network. ولو كان التصنيف يتعلق بدبي وحدها فإني أكاد أجزم أنها ستتبوأ أحد المراكز العشر على مستوى العالم، لكن التقرير يتعلق بتصنيف الدولة ككل، مما جعل الإمارات الأخرى عبئاً على دبي في هذا التصنيف. والتصنيف الذي أظهر بروزاً لكل من السويد والدانمارك والنرويج على رأس المراتب الثلاث الأولى للتصنيف يعكس ما أشرت إليه أعلاه من أن إنتاجية المواطن العربي تمثل ما نسبته 12.5 في المائة فقط من إنتاجية المواطن الأوروبي. وقد حصلت إسرائيل، التي تعد نفسها لتكون مركزاً لتقنية المعلومات في المنطقة، على أعلى تصنيف في الشرق الأوسط بتبوئها المرتبة الـ 17. في حين تبوأت كل من البحرين، الأردن، قطر، والكويت المراتب 42 و 50 و 53 و 57 على التوالي. أما المملكة فقد استطاعت فقط رفع تصنيفها الذي بلغته في عام 2005 بعشر مراتب فقط ولتتبوأ المرتبة الـ 70 في تصنيف عام 2008 مما يعكس التحول البطيء في ظل الموارد المالية والبشرية المتاحة.
إن زيادة إنتاجية القطاع العام تعد أحد أهم عوامل زيادة تنافسية الاقتصاد الوطني وجذب الاستثمارات الأجنبية وتحفيز النمو الاقتصادي وذلك بالنظر إلى ما يمثله الناتج المحلي الحكومي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. لذلك، فإن التركيز على تحسين الإنتاجية في هذا القطاع سيؤدي إلى نتائج إيجابية مضاعفة، ليس في القطاع الحكومي فحسب، ولكن في جميع قطاعات الاقتصاد الأخرى. وضعف الإنتاجية للموظف الحكومي ليست مشكلة تتعلق بالفرد لكنها تتعلق بأنظمة وقوانين الخدمة المدنية والجهات المنظمة لهذا القطاع. إذ إن وزارات الخدمة المدنية في العالم العربي والمملكة بشكل خاص تركز عملها بشكل كبير على تنظيم قطاع العمل الحكومي على حساب تطوير إنتاجية هذا القطاع. وإذا كان من دور مهم يجب أن تضطلع به وزارات الخدمة المدنية، فهو إحداث قفزة نوعية في إنتاجية الموظف الحكومي من خلال تغيير الأنظمة التي تخطاها الزمن وجعلت لقب (موظف حكومي) رديفاً (للضمان الاجتماعي) كناية عن ضعف إنتاجية هذا الموظف وعدم الحاجة إليه، لكن الأنظمة المدنية جعلت بقاءه على سلم الرواتب الحكومي أمراً لا مناص عنه.