مَـن المُـلام؟
كأي سياسي محترف انتهز الرئيس الأمريكي جورج بوش الفرصة ليطلق نكتة تلخص حالة الإحباط التي يعيشها بسبب أسعار النفط المرتفعة ولإشاعة جو من المرح، وذلك خلال حديث له في العاصمة واشنطن يوم الأربعاء الماضي.
في حديثه ذلك أبلغ بوش مستمعيه أنه ما لم تتغير عادة الاعتماد على النفط المستورد، فإن الولايات المتحدة ستظل مواجهة بتحديات عديدة. والنكتة التي ذكرها أن حضوره في موكب من 20 سيارة لا يساعد فيما يدعو إليه.
على أن الإحباط الأساسي إنما يعود لما حدث قبيل حضور بوش وفي الطرف الآخر من العالم، في فيينا. يومها التقى وزراء النفط في منظمة الأقطار المصدرة للنفط (أوبك) وقرروا الإبقاء على معدل إنتاج دولهم رغم مناشدة بوش لهم بفعل العكس وضخ المزيد. بل إن رئيس المنظمة ووزير النفط الجزائري شكيب خليل أرجع المتاعب التي تعانيها السوق النفطية، خاصة الارتفاع الكبير في سعر البرميل، إلى سوء إدارة الاقتصاد الأمريكي، وهو في الوقت ذاته أكبر مستهلك للنفط.
تصريحات خليل كانت تعكس رأيا عاما داخل المنظمة فيما يبدو، إذ نقل عن وزير النفط السعودي المهندس علي النعيمي أنه ليست هناك حاجة إلى زيادة حتى برميل واحد إلى ما يتم إنتاجه في الوقت الحالي، مشيرا إلى أن الرياض تضخ يوميا 9.2 مليون برميل، أي بزيادة نحو 300 ألف برميل يوميا إلى الحصة المقررة لها، وهذه الأرقام تؤكد ما يذكره مسؤولو "أوبك" باستمرار أن في السوق ما يكفي من إمدادات، وعليه فارتفاع السعر لا يعود تحديدا إلى نقص في الإمدادات.
هذه هي المرة الثانية التي يطلق فيها بوش تصريحه مطالبا دول "أوبك" بزيادة إنتاجها. قبل أقل من شهرين وإبان جولة له في المنطقة قادته إلى دول منتجة، طرح بوش طلبه هذا على مضيفيه الذين ردوا عليه بتهذيب أنهم سيفعلون ما في وسعهم لتلبية احتياجات السوق.
يلاحظ في تصريح بوش الأخير في واشنطن أنه قام بتخفيف صفة المتاعب التي تواجهها بلاده فيما يتعلق باستهلاكها النفطي. فقبل عامين مثلا وأثناء خطابه السنوي عن حالة الاتحاد، قال بوش إن على الولايات المتحدة إنهاء "إدمانها" على النفط المستورد، لكن في الأسبوع الماضي أعاد الحديث بالطلب تغيير "عادة" الاعتماد على النفط المستورد، والعادة في النهاية تعتبر مشكلة أقل من الإدمان.
لكن بعيدا عن هذا الملاحظات الشكلية، فإن في الملاسنات التي جرت بين بوش و"أوبك" ما يطرح على السطح قضيتين: مسعى واشنطن إلى ربط قضية ارتفاع سعر البرميل بأمنها القومي، وكذلك قيام مسؤولين من دول نامية بالرد على القوة العظمى الوحيدة في العالم بالرفض العلني.
ربط الأمن القومي بسلعة ذات بُعد استراتيجي مثل النفط ليس جديدا ولا مستغربا، لكن التطورات التي شهدتها الساحة النفطية وجعلتها سلعة دولية بالمعنى الكلي للكلمة، بما يجعل من التأثير في الأمن القومي لدولة ما أمرا مستبعدا. والسبب أن عوامل العرض والطلب ومن ثم تحديد سعر البرميل أصبحت تتم على أساس عالمي. فالسعر الذي يدفعه المستهلك الأوروبي، هو عينه الذي يتحمله رصيفه الأمريكي أو الصيني أو الإفريقي، إلا إذا قررت دول ما تقديم دعم للمستهلكين لديها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه وبسبب هذه الخاصية الدولية فإن اعتماد دولة ما على النفط المستورد بنسبة 40 أو 60 في المائة لن يشكل خطورة على أمنها القومي، وإلا لبرزت هذه الخطورة في بعض الدول الأوروبية مثلا.
أما النقطة الثانية فهي الخاصة بالرد السريع الذي طرحه مسؤولو "أوبك" على قائد القوة العظمى الوحيدة في العالم، إذ لم يقتصر حديث بعضهم على مجرد الرد، وإنما الإشارة إلى أن واشنطن بتصرفاتها تشكل جزءا من المتاعب التي تعانيها الصناعة النفطية في العالم، وأن "أوبك" متضررة من هذه السياسة أكثر من كونها سببا فيها.
في هذا الإطار تأتي قضية "غازبروم" وصادرات الغاز الروسية إلى الدول الأوروبية عبر أوكرانيا. فللمرة الثانية خلال عامين تتوقف صادارت الغاز تلك إلى المستهلكين لبضعة أيام وفي عز فصل الشتاء، ومع أن تلك كانت رسالة سيئة بالنسبة لسمعة روسيا، كما أن الحادث وفر ذخيرة للمدفعية الأمريكية التي تحذر حلفاءها الأوروبيين من الاعتماد على الإمدادات الروسية وبصورة تستدعي مناخات الحرب الباردة المخلوطة بالتخويف من الصلات المافيوية لشركة غازبروم التي تتولى أمر إمدادات الغاز.
لكن مثلما لم تستجب لعمليات التخويف التي قامت بها واشنطن في عز الحرب الباردة قبل أكثر من ربع قرن من الزمان، فإنها الآن أيضا لم تكترث كثيرا، فتيار العولمة والحقائق على الأرض لهما القدح المعلى.