أوروبا تدفع ثمن الاعتماد على موسكو في إمدادات الغاز
في اليوم نفسه الذي أعلن فيه عن تفوق ديمتري ميدفيديف في الانتخابات الرئاسية الروسية ومن ثم فتح الطريق أمام تنصيبه خلفا للرئيس الحالي فلاديمير بوتين، قامت شركة غازبروم التي يترأس مجلس أدارتها الأول باتخاذ قرار بخفض الإمدادات إلى أوكرانيا بنسبة 25 في المائة ومثلها في اليوم التالي، أو ما يعادل 46 مليون متر مكعب من الغاز في اليوم، ولو أنها أكدت أن هذه الخطوة لن تؤثر في الإمدادات المتجهة إلى أوروبا الغربية، إذ إن الخطوط التي تمر عبر أوكرانيا تجعلها البوابة التي تحمل إمدادات الغاز إلى الجزء الغربي من القارة، الأمر الذي يعطيها الفرصة للحصول على بعض الإمدادات المتجهة إلى أسواق أخرى.
ومع أن هذه الخطوة تأتي تكرارا لخطوة مماثلة قامت بها في مطلع العام 2006، إلا أنها هذه المرة تتهم أوكرانيا بعدم دفع مطلوبات تبلغ 600 مليون دولار، إلا أن تزامن الخطوة مع الإعلان عن فوز ميدفيديف يرسل رسالة أن سياسة روسيا في مجال الطاقة لا تبدو مرشحة لتغيير يخالف ما كانت عليه إبان عهد بوتين. الدستور الروسي الذي يعطي سلطات كبرى لرئيس الجمهورية في مجالي السياسة الخارجية والدفاع يجعل دور رئيس الوزراء قاصرا في المجال الاقتصادي، وهو المجال الذي سيشرف عليه بوتين في وظيفته الجديدة رئيسا للوزراء بعد أن يتسلم ميدفيديف منصبه رسميا في السابع من مايو (أيار) المقبل. فالإرث الذي وضعه بوتين يعطي أهمية للجانب الاقتصادي خاصة النفط والغاز، التي يرى أنها وسيلة لاستعادة مجد روسيا دولة عظمى ثانية.
لكن ما جرى ورغم أنه يضع غازبروم وخلفها الدولة الروسية في موقف حرج وإظهارها بمظهر من لا يحترم تعاقداته ويتجاوز مسعى بوتين تقديم بلاده مصدرا مأمونا لإمدادات الطاقة يمكن الاعتماد عليه خيارا وبديلا لمنطقة الخليج المضطربة، إلا أن الإشكال الأخير في واقع الأمر يعود في جزء كبير منه إلى صراع يتعلق بالسياسة الداخلية الأوكرانية. فالديون التي تطالب بها غازبروم تعود إلى عدم تصديق رئيسة وزراء أوكرانيا يوليا تايموشينكو على اتفاقات أبرمها رئيس الجمهورية فيكتور يوشيشنكو مع بوتين، خاصة وللرئيسة وجهة نظر غير ودية تجاه غازبروم وما تعتبره مسعى منها لبسط هيمنتها على سوق الطاقة في بلادها. الأمر تطلب اتصالات مباشرة بين رئيسي الجمهورية في البلدين، وهو ما هيأ الإطار السياسي لاتفاق غازبروم ونفط وغاز الأوكرانية تم بموجبه دفع المتأخرات ومن ثم استئناف الإمدادات بعد انقطاع دام ثلاثة أيام.
على أن هذه الأزمة تثير من جديد تساؤلين حول قدرة غازبروم ومن خلفها روسيا على توفير الإمدادات اللازمة وعدم جعلها أحد كروت الضغط السياسية أو الاقتصادية في علاقاتها الدولية، وهذا ما يبرز النقطة الثانية المتعلقة بأوروبا الغربية وإلى أي مدى ستظل معتمدة على إمدادات الغاز الروسية.
ففيما يتعلق بالنقطة الأولى، فإنه من المعروف أن روسيا لديها أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم يبلغ 1680 ترليون قدم مكعب، وهو يصل إلى ضعفي الاحتياطي الموجود لدى ثاني أكبر دولة لديها احتياطيات من الغاز، وهي إيران. كذلك وأنها أكبر منتج (23.5 مليار قدم مكعب العام الماضي) وأكبر مصدر(أكثر من 7 مليار قدم مكعب). وغازبروم هي الشركة الحكومية التي تتولى أمر صناعة الغاز إنتاجا ونقلا وتوزيعا داخليا وخارجيا، ولهذا فهي تنتج 90 في المائة وتوفر للدولة الروسية الجزء الأكبر مما تحصل عليه من عملات صعبة بسبب التصدير. لكن الحقول التي تنتج منها خاصة الثلاثة الكبرى في غرب سيبيريا المدعوة يورنقوي، يامبورج وميدفيزهاي بدأت تظهر علامات الشيخوخة وتدني الإنتاج بنحو 700 مليار قدم مكعب سنويا، الأمر الذي يتطلب استثمارات إضافية للحصول على إمدادات أضافية في حدود 6100 مليار قدم سنويا بحلول العام 2015 ولذلك أبرمت خطة طموحة لاستثمار 10.8 مليار دولار في العام خلال فترة عشر سنوات جزء أساسي منها يقوم على الحيازة في دول أجنبية.
أما من ناحية الاعتماد الأوروبي على إمدادات الغاز الروسية، فإن واشنطن تتخوف من هذا الاتجاه وتدعو الأوروبيين إلى مواجهته عبر النظر في خيارات أخرى. ولواشنطن سياسة ثابتة في هذا الإطار تعود إلى أيام الحرب الباردة وبلغت أوجها إبان أدارة الرئيس الأسبق رونالد ريجان، الذي بذل جهودا حثيثة لإقناع الأوروبيين الغربيين بعدم اللجوء إلى خيار إمدادات الغاز من الاتحاد السوفياتي وقتها، لكن حقائق الجغرافيا فرضت واقعا مختلفا. ويظل القلق الأمريكي تجاه النوايا الروسية قائما. فأخيرا جدد نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي ماثيو بريزا لشؤون جنوب شرق آسيا هذا الموقف الأمريكي، مضيفا إليه بعدا استغلاليا من قبل موسكو. فغازبروم في رأيه شركة محتكرة تشتري الغاز رخيصا من تركمانستان بنحو 100 دولار للألف متر مكعب وتبيعه إلى الدول الأوروبية بنحو 300 دولار للألف متر، كما تشير بعض ممارساتها. وترى واشنطن في هذا الفارق الكبير مؤشرا على بعض ممارسات المافيا مشيرة تحديدا إلى سيميون موقيلفتش المولود في أوكرانيا لكنه يحمل الجنسية الروسية ولديه شركة تنشط في مجالات التصدير بين روسيا وأوكرانيا والمستهلكين الأوربيين. وترغب واشنطن في أن ترى غازبروم تتصرف كأي شركة تجارية تستثمر أموالها في تحسين قدراتها في مجالي الإنتاج والنقل خدمة لعملائها وبدلا من التركيز على عمليات الاستحواذ في شركات أوروبية وفق مفاهيم ذات أبعاد استراتيجية، أكثر منها تجارية.
وأضاف أن واشنطن تدعم خط نابوكو الذي يشرف عليه الاتحاد الأوروبي ويهدف إلى إيصال إمدادات الغاز من بحر قزوين إلى أوروبا، والخط يمكن أن يوفر فرصة يستفيد منها كل من العراق وأذربيجان، والاثنان حليفان سياسيان لواشنطن، وهو ما يمكن أن يشكل ضغطا على غازبروم، التي يقول بريزا إنه لا يرغب في رؤيتها وهي تهدد الأمن الاقتصادي لأهم حلفاء الولايات المتحدة.
لكن الاتفاق الذي أبرمته شركة أيني الإيطالية مع غازبروم يوضح أن الأخيرة توسع من خياراتها خاصة بعد أتفاق فبراير(شباط) الذي وقعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رصيفه البلغاري جورج بافانوف، الذي يفترض أن بلاده ملتزمة بالخيار الأوروبي في خط نابوكو. إذ إن الخط المقترح يمر عبر البحر الأسود يعتبر ضربة لخيار نابوكو. فهو يتوقع له أن يكلف 10 مليارات يورو أو نحو 14.6 مليار دولار. وسيتم شراء الغاز من أذربيجان وإيران وستكون لكل من روسيا وبلغاريا حصة 50 في المائة من الجزء الممتد في الأراضي البلغارية. ويمتد الخط على مسافة 900 كيلومتر ويقوم بنقل 30 مليار متر مكعب وينقسم في مساره إلى قسمين، يذهب الأول غربا باتجاه إيطاليا والثاني شرقا نحو النمسا والمجر.
وكان بوتين قد سجل نجاحا في أواخر العام الماضي عندما تمكن من إبرام اتفاق مع كل من كازخستان وتركمانستان على نقل الغاز من بلديهما، الأمر الذي يعزز من مكانة موسكو لاعبا رئيسا في صناعة الغاز خاصة والاتفاق يغطي قضيتي النقل وتوفير المزيد من الإمدادات لصالح غازبروم، الأمر الذي يقوي ساعدها في مواجهة زبائنها الأوروبيين، كما أن الخط الذي سينقل الغاز من هذين البلدين سيمر عبر روسيا متجاوزا الخطط الغربية بتخطي روسيا وإيران عند التخطيط لنقل النفط والغاز من منطقة بحر قزوين المغلقة. وكحافز للدولتين فإن روسيا عرضت دفع 130 دولارا لكل ألف متر مكعب من الغاز بدلا من 100 دولار كانت تدفعها في السابق.