أقدم معلم في الرياض.. تخرج في "كولورادو" وبدأ من "هيت" والنظام يبعده عن العمل قريبا

أقدم معلم في الرياض.. تخرج في "كولورادو" وبدأ من "هيت" والنظام يبعده عن العمل قريبا

لم أتوقع عندما بدأت البحث عن أقدم معلم في العاصمة السعودية – الرياض، أن أجلس إلى رجل تخرج في جامعة كولورادو الأمريكية، وأن أستمع أثناء حديثي معه إلى مصطلحات باللغة الإنجليزية.
المعلم عبد العزيز بن عبد الله بن محمد المقبل رجل بسيط، ما إن تراه حتى يقودك تواضعه الجم إلى أن تختصر فيه وصف عبارة "مرب فاضل"، التقيته قرب مسجده الذي لا يبتعد كثيرا عن منزله ومدرسته.
أقبل نحوي بقسمات وجه هادئ، فتح لي أبواب قلبه، وأدخلني إلى حجرة الفصل في مدرسته التي ما زال يعمل فيها منذ 22 عاما والتي ينتظر أن يسدل فيها الستار على تاريخ طويل من عطاء استمر لـ 40 عاماً تنتهي بحلول شهر رجب المقبل، ملقيا خلفه مشوارا وظيفياً طويلاً كان قد بدأه في مدرسة هيت الابتدائية.

"هيت" .. نقطة البداية
بحثنا عنه على مستوى مدينة الرياض من واقع سجلات إدارة التعليم حتى وجدناه في حي النسيم في الرياض "مدرسة عبد الرحمن الناصر المتوسطة"، وكأنه يمارس هوايته المحببة معلما لمادة اللغة الإنجليزية.
عرّفني بنفسه، فقال أنا عبد العزيز بن عبد الله بن محمد المقبل، ودخلت ميدان التربية والتعليم من بوابة مدرسة هيت الابتدائية.
لقد هالتني روحه وحماسه، إذ سيخرج قريباً من بوابة مدرسته الأخيرة، ولا يزال ملؤه الحيوية والنشاط تجاه تدريس اللغة الإنجليزية لطلاب الرياض الذين عدا معهم مضمارا طويلا في ميدان التربية على مدى 40 عاماً حتى الآن، ليجد النظام له بالمرصاد وذلك لانتهاء خدمته وبلوغه سن التقاعد 60 عاماً.

الصعود إلى القمة
كنت أنظر إليه كمن استطاع أن يتسلق قمة "إيفرست" الشهيرة يحدثني عن سيرة صعوده منذ أن كان طالباً حتى أصبح معلماً في المرحلة الابتدائية ثم مبتعثاً إلى الولايات المتحدة ومن ثم عودته مرة أخرى إلى التدريس في إحدى مدارس المرحلة المتوسطة في الرياض، لم يساورني الشك للحظة بأن هذا شكل فريد من أشكال الصمود في هذه الحياة يحتاجه كل من يعمل على وظيفة معلم.
لم يكن المقبل حين اتجه من بلدته "الهلالية" في القصيم، وهو ابن خمسة عشر ربيعا ليختار العاصمة الرياض وتحديدا منزل شقيقته، بعد أن أنهى دراسته في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة هناك ليبحث عن غنيمة باردة، تجلب له الشهرة أو تصنع له المال، بل كان قد حدد التربية هدفا له، فحب المهنة غرسته أسرته، التي عرف عدد غير قليل من أبنائها العمل في مهنة التدريس، سلك طريقه بعد أن أسر إلى والدته حديثا لم يبده لغيرها قائلا: "سأقصد الرياض أريد أن أكون معلما".
رحل عن داره وأطلق الخطى نحو هدف ينشده مع إشراقة الصبح "معهد المعلمين الثانوي في الرياض" كان هدفه، بادر بالتسجيل والدراسة وصار ينهي السنوات واحدة تلو الأخرى حتى بلغ الثالث ثانوي (معلمين) فقرر أن يدرس الثانوية العامة فترة المساء في ثانوية الجزيرة أيضا، ليحصل على شهادتها علاوة على شهادة المعهد، فتوج كل ذلك بحصوله على الشهادتين اللتين كان يتطلع من خلال إحداهما إلى العمل معلماً، أما الثانية فكانت عينه ترقب من خلالها فرصة للابتعاث إلى خارج المملكة، وقد كانت إسهامات أجيال المبتعثين بدأت تظهر في مسيرة التنمية في البلاد.

مباشرة العمل في "الرياض"
تحقق لعبد العزيز ما أراده وباشر بتاريخ 2/1/1390 هـ، العمل معلماً بمدرسة هيت الابتدائية التي ما كان ليتجه إليها لولا شغفه بتطبيق ما تعلمه في المعهد، ليجد 16 طالباً في انتظاره داخل مبنى المدرسة الذي شيد من الطين واللبن.
استمر فيها مدة عام دراسي انتقل بعدها إلى مدرسة الصالحية الابتدائية وسط الرياض في حي الملز، وكان يوصف بشمال الرياض بينما يوصف دوار الخرج لقاصدي أقصى الجنوب.
أتم أربع سنوات دخل خلالها قفص الزوجية ونعم بحياة أسرية لم يتردد بأن يصفها بالجميلة، حتى هز موعد الرحيل الأشجان، وحضرت لوعة الفراق بين البيت والأركان، وتبقى زوجته في الرياض لا تشاركه الاغتراب، ويرحل مبتعثا وحيداً إلى أمريكا.

المجتمع الأمريكي
في الولايات المتحدة آثر ألا يختلط ببني جنسه كثيراً حتى يتقن دراسة اللغة الإنجليزية بشكل سريع، عاش بين الأمريكيين والتحق بمعهد الجامعة واستكمل سنوات الدراسة، حتى ظفر بالشهادة وتخرج وعاد إلى أرض الوطن.

الفتى النجدي وأمريكا
لم تنقض سنوات الدراسة في أمريكا إلا وقد تعرف المعلم عبد العزيز المقبل إلى الشعب الأمريكي، وأدرك العديد من الفوارق بين مجتمعه في الرياض والمجتمع الجديد. كان قد زار عددا من الولايات واطلع على معالمها الشهيرة، يقول "أعجبني حرصهم على الوقت فإن أحدا منهم لن ينتظرك إذا تأخرت عن الموعد المحدد، كما أعجبني اهتمامهم بالسلامة المرورية". كان المقبل يواجه الأمريكيين بشرح مستفيض عن بلاده ومجتمعه، يضيف قائلا: "سقت لهم أحاديث كثيرة عن الثقافة النجدية السعودية وما تضمنته من عادات وتقاليد وأمثلة شعبية وعرضة نجدية، ونفيت لهم إشاعة آبار النفط الموجودة في بيوتنا وخيامنا وغيرها من الأفكار التي كانت تسكن عقول بعض من واجهتهم أثناء دراستي وتنقلي هناك".

لقاء الأمير سلمان
وبينما كان المعلم عبد العزيز يقلب أوراقه الدراسية الممهورة بتواقيع ثلة من رجال التعليم السابقين (حسن آل الشيخ وزير المعارف، ومحمد بن صالح العميل مدير عام المديرية العامة للتعليم في الرياض...)، يقول "كنت حينها أسعى إلى حفظها في مكان مناسب وإذا بي أتلقى اتصالاً يطلب منا الحضور إلى ملتقى المبتعثين في الملحقية السعودية في واشنطن والذي عُقد ذاك العام بحضور الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، فتوجهت أنا وزميلي الأستاذ عبد اللطيف الزمزمي (وهو من أهالي مكة وكان يعمل معلما في الدوادمي)، وإثر خشيتنا بأن نكون قد تأخرنا عن موعد الحفل، توجهنا للصعود عبر الدرج وإذا بصوت يعلو ينادينا "تعالوا إلى المصعد "كانا رجلين وقد بادرنا أحدهما بالسؤال فقال: أنتم سعوديون، قلنا: نعم، قال: من أين؟ قلت: أنا من سكان الرياض أما الأصل فمن القصيم، ثم تبعني زميلي الآخر، فقال: جئت من الدوادمي وأعمل فيها، فقال متأملاً: من الدوادمي القرية الصغيرة إلى أمريكا!". وصل المصعد وحظي ذاك الرجل (الذي كنا نتحدث معه في المصعد) باستقبال حافل كنا نرقبه وهو يتجه ليجلس في صدر القاعة عندها، تأكدت أنا وزميلي "معلم الدوادمي" أن هذا الرجل المتواضع الذي كان يبادلنا الحديث في المصعد، هو الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض.

من كولورادو إلى منفوحة
حزم عبد العزيز المقبل أمتعته وعاد إلى الرياض من دون أن يتبدل معدنه الأصيل، يقول: "تسلمت عملي معلما للغة الإنجليزية في المرحلة المتوسطة بمدرسة الملك خالد في حي منفوحة، بقيت فيها عاما واحدا ثم انتقلت منها إلى متوسطة الإمام أحمد في الصالحية، وعملت فيها نحو ثماني سنوات منحني خلالها مدير المدرسة الأستاذ أحمد الغليقة مدير مركز الإشراف التربوي في وسط الرياض حاليا، علاوة تشجيعية لم يوافق على منحها سوى لي ولفراش المدرسة حيث استمر الأستاذ الغليقة في مساعدته إلى أن زوّجه وأصبحت لديه أسرة".
بعدها اتجهت إلى متوسطة عبد الرحمن الناصر في النسيم يقول "ها أنا أترجل منها بعد بلوغي سن التقاعد، وقد أمضيت فيها زهاء 22 عاما شهدت خلالها تحولها إلى المبنى الحكومي الذي تشغله حاليا، وهو مبنى كبير إلا أن فصوله بدأت تكتظ بالطلاب.

"تعلم الإنجليزية"
حين كان المقبل يحضر للبعثة في الرياض اتجه إلى المجلس الثقافي البريطاني لاستكمال بعض أوراقه حيث بدت له آنذاك فكرة إنشاء ناد مدرسي اللغة الإنجليزية، فعمل على تطبيقه في إحدى مدارس الرياض يقول "طبقنا الفكرة وكانت رائعة بحمد الله وساعدنا على ذلك دعم الدولة لمادة اللغة الإنجليزية من خلال توفير المعامل بما فيها من كبائن وسماعات ولوحة مفاتيح ومناهج مرتبطة بأشرطة سمعية، ونجحت الفكرة واستفاد منها طلاب كثيرون لكن طلابا آخرين لم يشاءوا أن يعتنوا بمقتنيات النادي ويحافظوا عليها، ومع تغيير المناهج وعدم وجود الأشرطة رغم وجود إشارات في المنهج تطلب الرجوع إلى الشريط عندها حوصرنا بضعف الإمكانات فتراجع النادي، ولاحظنا تراجعا في مستوى الطلاب في اللغة الإنجليزية، وكنت أسعى إلى تجاوز ذلك من خلال إحضاري جهاز التسجيل والأشرطة إلى الحصة الدراسية ومتابعة ذلك يوميا مع الطلاب، في حين كان دعم الدولة بلا حدود كنا نأخذ راتب شهر في أسبوع نظير دورات الوسائل التعليمية والتصحيح وغيرها.

أمنيات مجرّب
وبينما ينهي المعلم عبد العزيز المقبل حديثه بهدوء كما ينهي مشواره التعليمي الطويل، يقول " اشتغلت في تدريس اللغة الإنجليزية في المساء أيضا، حيث أعمل على تدريس أفراد قوات الأمن الخاصة في مدارسهم في أم الحمام، لقد بدأت أنا وزميلي مدير المدرسة، وهو آنذاك ضابط جديد في السلك العسكري برتبة ملازم ثان يدعى جبران القحطاني وها أنا أعمل في المعهد حتى الآن بينما تقاعد هو منذ سنوات على رتبة عميداً، لم أفكر يوما أن أغيّر مهنتي التدريس". وأكد المقبل "ضرورة تشجيع المعلمين ومنحهم مستوياتهم الوظيفية المستحقة وشحذ هممهم وتأسيس نواد اجتماعية لهم".
اختتم المعلم المقبل الحديث بأمنيات بعثها قبل أن يترجل من منبر التعليم مطالبا بأن تجد مشكلة علاج المعلمين وإنفاقهم المتزايد على المستشفيات حلا، وذلك بتخصيص مستشفيات من القطاع الخاص أو الحكومي يتم تحويل المعلمين إليها، أو تيسير التأمين الصحي أو توفير مستشفيات خاصة لهم، وكذلك حل مشكلة الـ 24 حصة في جدول المعلم والتي تثقل كاهله كلما تقدمت سنه، فأغلب خدمته كانت 24 حصة "فالمعلم إذا خف نصابه سيزيد عطاؤه"، كما تمنى أن يتم وضع حلول مناسبة للحد من ارتفاع كثافة الطلاب في الفصول، والقضاء على المدارس المستأجرة، وتطوير أدوات وطرق تدريس اللغة الإنجليزية بما في ذلك إعادة تجربة نادي اللغة الإنجليزية ودعمها، فمنهج الثالث متوسط يصعب توصيل معلوماته بسهولة للطلاب، إضافة إلى التفكير جديا في إيجاد ناد للمعلمين المتقاعدين متمنيا أن ترى هذه الأفكار النور قريبا.

أخيراً
مازال عبد العزيز يعيش ذكريات مشواره الوظيفي الطويل ومرحلة التأسيس، مازال بعض زملائه من"دفعة كولورادو" على تواصل معه، وقد تمكن بعضهم من الحضور إلى ملتقى كان قد أقيم في الرياض حيث يذكر أبو عبد الله منهم "رجل الأعمال وخبير الجودة المعروف الأستاذ سعيد الشواف، والشيخ فيصل الرشيد، ومحمد العساف وآخر يدعى ابن عطار من جدة، إضافة إلى الكواري من قطر وآخرين".
انتهت جولتي مع أقدم معلم في مدينة الرياض حتى الآن حسبما ظهر لي من سجلات المعلمين المقدمين للتقاعد بقوة النظام حتى الآن في شؤون الموظفين في "تعليم الرياض"، وكل كلماته تدور في خلدي وأنا أردد المقولة الشهيرة "اسأل مجرّباً ولا تسأل طبيباً".

الأكثر قراءة