الإدارة وفكرنا وسلوكنا الاجتماعي
فكرنا وسلوكنا الاجتماعي حاضر قبل الفكر والسلوك الإداري وهو ما جعله أكثر تأثيرا من الفكر والسلوكيات الإدارية المقبلة لنا من الخارج عبر الكتب وعبر الشركات الاستشارية العالمية وعبر التجارب الإدارية العالمية الناجحة، بل إن فكرنا وسلوكياتنا الاجتماعية النابعة من ثقافتنا الجافة بجفاف منطقتنا الصحراوية القارية شكلا العائق الأكبر أمام تقبل الفكر الإداري العالمي الحديث وتحويله لسلوكيات على أرض الواقع، وهو ما أدى بالتبعية لإدارة متخلفة (نسبة إلى الإدارة الحديثة) لم تستطع استثمار الموارد الهائلة التي حبانا الله بها الاستثمار الأمثل، وإن كانت قد استثمرتها بالحدود الدنيا كما أعتقد.
الإنسان ابن بيئته شكلا، فكلنا يعلم أن الجينات تتفاعل مع الظروف المحيطة لتعيد تشكيل الإنسان من حيث لون البشرة والعينين والشعر وطول الأيدي والأرجل وتركيبة الأنف وحجم القلب ونسبة الدهون وكريات الدم الحمراء إلى غير ذلك ليتكيف مع الظروف المناخية والتضاريس الجغرافية بما يحقق له الاستمرارية في الحياة، ولا عيب في ذلك، فالبيئة رحم ينشأ الإنسان في داخله ويتأثر بمعطياته دون اختياره، ولا يطلب عاقل من أي إنسان أن يغير شكله الجسماني ليحسن من مستوى معيشته إلا إذا فعل ذلك البعض من أجل ميزات جمالية تنافسية كما هو حال البعض، حيث رواج عمليات التجميل بين الشباب والشابات.
الإنسان أيضا ابن بيئته فكرا وسلوكا اجتماعيا، حيث تنعكس الظروف الجغرافية على الفكر والسلوك الاجتماعي من أجل مواجهة تلك الظروف، ولا يخفى علينا أسباب التكتلات القبلية في منطقة الجزيرة، والحروب الطاحنة بين القبائل المتجاورة، حيث شح الغذاء والماء في منطقتنا الصحراوية الجافة النادرة الموارد الغذائية والمائية، ولا شك أن تلك الحروب تستدعي منظومة قيم ومفاهيم تسهم في حماية أي تكتل اجتماعي من التكتلات الأخرى، وكلنا يعلم أن سوء الظن والغموض والشك والمراهنة على الزمن دون بذل الأسباب والقسوة والقمع والاعتزاز بالذات وانتقاص الآخر مفاهيم سادت بين أفراد مجتمع الجزيرة العربية قبل عصر الدول الحديثة، ولا شك أن تلك القيم والمفاهيم يمكن تغيرها إلى ما هو أفضل وما يتناسب مع المعطيات الحالية إذا حللنا وشخصنا الفكر والسلوك الاجتماعي السائد حاليا والذي شكل امتدادا طبيعيا لفكر وسلوكيات مجتمعنا في عصر ما قبل الدولة السعودية ووضعنا خطة لمعالجته ليصبح محفزا لا عائقا أمام نهضتنا المنشودة.
مؤلم جدا أن نرى أفرادا كثيرين من مجتمعنا سافروا إلى البلدان المتقدمة وحازوا أعلى الشهادات العلمية وعادوا يسلكون فكرا إداريا متخلفا لا يتناسب وعلمهم ومواقعهم، فكرا شكله الفكر والسلوك الاجتماعي السائد الذي لم يعد يصلح لهذا الزمان ومعطياته، وكم من مدير لمنشأة حكومية أو خاصة أو مدير لإدارة يتصرف مع شركائه في العمل من موظفين ومراجعين وعملاء وموردين واستشاريين وغيرهم بروح الشك والغموض واللوم المستمر والانتقاص إن لم يكن الازدراء والاحتقار والتعطيل مراهنة على الوقت، راجيا صدور ما يوقف حقوقهم أو معاملاتهم بعيدا عن كل المفاهيم الإدارية الحديثة التي تقول بوجوب حسن الظن والوضوح والشراكة والاحترام المتبادل واختصار الإجراء وتقليص المدة والأخذ بالأسباب.
ولقد رأيت غير مرة أكثر من مدير سعودي يتعامل مع موظف أو مورد أو عميل أو مستشار بروح الشك والغموض والازدراء والكذب والتعطيل، ولقد رأيت بعضهم يقول كلاما يجعل الخارج من عنده يطير في عالم الأحلام، وما إن يخرج حتى يلتفت صوبي ويقول لي"صدق المجنون"، تخلصنا منه ومن إزعاجه وعساه يفهمها مماطلة (الحكي بالحكي والبل بالدراهم )، نعم غموض وكذب يفضيان لمماطلة يجب أن يفهمها الآخر.. أي ثقافة إدارية تلك؟!
أحد مديري الشركات الصغيرة يقول أفضل خطة يمكن أن تطبقها هي "خطة طقها وألحقها"، حيث لا يمكن لك أن تبني خطة ولو لمدة سنة واحدة على معطيات يقولها لك مسؤولو الشركات العميلة (الحالية أو المرتقبة)، فالغموض سيد الموقف والكذب رديفه، فكل الوعود كلام في الهواء لا مستقر له ولا يمكن أن تبني عليه خطة قابلة للتطبيق، وإن فعلت فعليك أن تتحمل نتائج ذلك من خسائر مالية وإحباطات تجعلك تفكر مليا في ترك العمل والعودة إلى الصحراء لترعى أغناما أكثر صدقا من كثير من مديرينا من حملة شهادات الدكتوراه التي حطمت عقولهم بدل أن تصلحها ليصلحوا القوم من ورائهم.
ما الحل إذن لكي نعكس المعادلة ليشكل الفكر والسلوك الإداري الحديث فكرنا وسلوكنا الاجتماعي بدل الوضع غير السوي الذي نعيشه حاليا، أعتقد أنه حان الوقت لكي تقوم الجمعية السعودية للإدارة انطلاقاً من دورها في تطوير ونشر الفكر الإداري والارتقاء بالبيئة الإدارية في كل من القطاعين العام والخاص بتبني مشروع استراتيجي بالتعاون مع الغرف التجارية لتنمية الفكر والسلوك الإداري في المملكة لتنقيته أولا من شوائب الفكر والسلوك الاجتماعي وتطويره ثانيا من خلال توطين الفكر الإداري العالمي وتطويره بما يتناسب وظروفنا، خصوصا أن من أهم أهداف الجمعية استعراض ما هو مناسب وما يمكن تطبيقه في البيئة الإدارية السعودية، وتبادل الأفكار والمنتجات العلمية المحلية والعربية والعالمية ونشرها في المجتمع الإداري السعودي.