رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


السياسات النفطية: لعبة خارج إطار حرية السوق

[email protected]

كنت جالساً في أحد المقاهي في الولايات المتحدة الأمريكية عندما دار حوار بين ثلاثة من العاطلين عن العمل الجالسين على ناصية الطريق يتعلق بارتفاع أسعار النفط. واسترعى انتباهي مداخلة أحدهم متسائلاً: هل يجب أن ندفع كل هذه الدولارات لجالون البنزين لكي يستمتع السعوديون بركوب سيارات المرسيدس؟ وهذا بدوره أثار تساؤلين لدي: الأول أن هذا العاطل عن العمل، والذي يتسكع في الشوارع حاملاً حقيبة ملابسه على ظهره ويعتمد على المساعدة الشهرية من حكومة الولاية لا يملك سيارة لكي يضطر أن يدفع للسعوديين لكي يشتروا سيارات المرسيدس. وثانياً أن هذه الطريقة من التفكير هي السائدة في الكثير من الأوساط الغربية حتى المتعلمة منها عندما يتعلق الأمر بالنفط فقط وليس بغيره من السلع.
فالغرب في كل الأمور حتى الاقتصادية منها يزن الأمر بمكيالين، الأول يتعلق بمصالحه الخاصة، والآخر يتعلق بمصالح الغير معه. فعندما يأتي الحديث عن السياسات الزراعية، تجد الأوروبيين والأمريكيين، على حد سواء، يقفون في مواجهة العالم بأجمعه للتمسك بالدعم الزراعي في دولهم حفاظاً على مصالح مواطنيهم. أما عندما يتعلق الأمر بالنفط فالغرب يتحدث من منطلق حرية السوق ووجوب ترك أمر تحديد أسعار النفط لمسألة العرض الطب دون أدنى اعتبار لمصالح الدول المنتجة. ثم يأتي تساؤل آخر: هل علينا أن نبذل كل هذا العناء والجهد لنبرر للغرب كل سياساتنا الاقتصادية، خصوصاً المتعلقة بالنفط منها في ظل هذا التناقض الصارخ في تطبيق أبسط مبادئ حرية السوق؟
بالأمس القريب سمعنا رئيس الوزراء البريطاني وبعض الساسة الأوروبيين يخرجون عن التهذيب الدبلوماسي ليتهموا "أوبك" بالوقوف وراء ارتفاع أسعار النفط بتحكمها في المعروض من الإنتاج العالمي من النفط. ولنفكر قليلاً قبل أن نحاول دفع التهمة عن "أوبك". نعم "أوبك" تتحكم في 40 في المائة من الإنتاج العالمي من النفط، وتعمل على أن يتوازن المعروض مع الطلب الفعلي لكي لا تهبط الأسعار، وبالتالي تتأثر مصالحها الوطنية، لكن أوروبا نفسها تقيد حرية السوق فيما يتعلق بقطاعات أخرى ومن بينها القطاع الزراعي وقطاع صناعة البتروكيماويات، ولا تقبل من أحد أن يفاوضها على ذلك. فأوروبا الموحدة تقدم أجندة محددة على طاولة المفاوضات تتفق ومصالحها الوطنية وتخالف مبدأ حرية السوق. وتحرم من لا يقبل هذه الأجندة من الدخول إلى الأسواق الأوروبية، وفي النهاية لم يحتج الأوروبيين إلى تبرير مواقفهم الاقتصادية أمام العالم لأنهم معنيون بمصالحهم الوطنية بالدرجة الأولى، ولم يأبهوا بكون سياساتهم لا تتفق ومبادئ حرية السوق.
أوروبا أيضاً تتميز ببرامج الرفاه الاجتماعي الوطني الأكثر كرماً في العالم، وفي الوقت نفسه أعلى نسب ضرائب على النفط في العالم لتمويل موازناتها المثقلة بتلك البرامج. فلماذا لم تحتج أوروبا لتبرير تلك الضرائب العالية على النفط، في حين تطالب الدول التي تقدم إعانات استهلاك النفط ، للمحافظة على مواطنيها من الانزلاق إلى خط الفقر، بإزالة تلك الإعانات. لأن تلك الإعانات، حسب ما يراه الغرب، تؤدي إلى زيادة الاستهلاك، ومن ثم زيادة الطلب على النفط. وهذا بدوره يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. فإذا كان للأوروبيين الحق في تمويل برامج الرفاه الاجتماعي لديهم من خلال قدرتهم على فرض ضرائب عالية على النفط، فمن حق الدول الأخرى دعم الاستهلاك لتخفيف الأعباء على مواطنيها، وفي كلتا الحالتين اللعبة خارج إطار حرية السوق.
وللقارئ الكريم أسوق بعض المؤشرات عن ضرائب استهلاك المشتقات النفطية ومستويات الإنفاق على برامج الرفاه الاجتماعي في أوروبا. ففي ألمانيا تفرض ضريبة قدرها 0.6545 يورو لكل لتر من البنزين، إضافة إلى 19 في المائة ضريبة قيمة مضافة على السعر شاملاً ضريبة البنزين. وفي هولندا تفرض أعلى ضريبة على البنزين في العالم بما قيمته 0.684 يورو لكل لتر، إضافة إلى 19 في المائة ضريبة قيمة مضافة. أي أن ما تفرضه كل من ألمانيا وهولندا كضريبة على لتر البنزين يتجاوز سعره شاملاً الضريبة في الولايات المتحدة الأمريكية. في الوقت نفسه تبلغ نسبة الإنفاق على الرفاه الاجتماعي في هاتين الدولتين ما قيمته 33.2 و27.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي.. لذلك فإن منطق الأوروبيين نفسه وغيرهم ممن يفرض مثل تلك الضرائب يمكن استخدامه لتبرير سياسات "أوبك". فهم يفرضون الضرائب للحد من الطلب ومن ثم تخفيض الأسعار و"أوبك" تسعى إلى المحافظة على نطاق سعري يحافظ على مستوى معين من العوائد المالية من بيع النفط، واللعبة كلها خارج إطار حرية السوق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي