مفاجأة الأربعاء

مفاجأة الأربعاء

قبل أسبوعين تقريبا من المفاجأة التي شهدتها السوق النفطية عندما كانت كل التوقعات تتحدث عن ضعف في الطلب وبالتالي احتمال تراجع في سعر البرميل، شهدت مدينة هيوستن، أحد مراكز صناعة النفط العالمية، اجتماعا لرابطة باحثي مؤسسة كمبيردج للطاقة برئاسة الباحث المعروف في هذا المجال دانييل يرجن. اللافت للنظر في ذلك الاجتماع أمران: أولهما أن تركيز النقاش كان على قضايا التغير المناخي وأمن الطاقة أكثر من أي أمر آخر، حتى عندما تم التطرق إلى احتمال حدوث كساد أو تباطؤ اقتصادي، كان الرأي السائد أن حدوث ذلك بما يتبعه من تراجع في الطلب يمكن أن يعطي فسحة تسمح للصناعة النفطية أن تلتقط أنفاسها.
في خلفية هذا النقاش أن الصناعة النفطية، واتساقا مع ست سنوات من النمو المتواصل، وصلت إلى مرحلة أصبحت مقيدة بقلة الكوادر وارتفاع التكلفة، الأمر الذي يحد حتى من قدرة الخطط لرفع الطاقة الإنتاجية، كما يأمل الكثير من المنتجين، بل حتى بعض المستهلكين. ولهذا فإن أي تراجع في الطلب يمكن أن يكون أمرا مرحبا به، لأنه يوفر وقتا ويخفف من الضغط لتوفير المزيد من الإمدادات لمقابلة الطلب المتنامي.
الأربعاء الماضي كان مفاجأة بكل المقاييس، لا تقتصر فقط على تخطي سعر برميل النفط حاجز 100 دولار، بعد أن كانت الأعين قد تركزت خلال الأسابيع القليلة الماضية على المعدل المنخفض الذي يمكن أن يستقر عليه السعر بسبب اتجاهه التنازلي، وإنما للتعليق الذي ورد من صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد العالمي يمكنه استيعاب تبعات هذا السعر المرتفع، وهو ما يعني بصورة أخرى أن عنصر التضخم ليس واردا في الحسابات، أو على الأقل بالصورة القديمة المرتسمة في الأذهان. ويظهر هذا بوضوح أنه مع السعر العالي والمستمر طوال العام الماضي مثلا، فإن جانب التضخم لم يصبح بعد قضية مطروحة على كل المحافل، ولو أن تصاعد أسعار الطعام مثلا أصبحت تلفت الأنظار.
أحد التفسيرات لما يجري أن العالم وصل إلى عصر انتهاء عصر الطاقة الرخيصة، وأنه بغض النظر عن حجم التراجع في سعر برميل النفط، فإنه يبدو مستبعدا العودة إلى معدلات الـ 20 دولارا للبرميل مثلا حتى إذا حدث انهيار، وأنه في أسوأ الاحتمالات، فإن الحديث يدور حول توقعات بتراجع سعر البرميل إلى ما بين 70 و80 دولارا ويستقر هناك.
انتهاء عصر الطاقة الرخيصة لا يقتصر على النفط، وإنما ينسحب إلى مجالات أخرى على رأسها ميدان الغذاء. فكل من سلع القمح والذرة الشامي وفول الصويا تشهد تصاعدا لدرجة أن المخزون الأمريكي من القمح تراجع ووصل إلى مستوى لم يبلغه منذ عام 1948. تبعات هذا لا تقتصر فقط على التكلفة العالية وبروز مظاهر الشح في سلعة الدقيق في عديد من البلدان مثلا، وإنما في تقييد الخيارات، حيث كان لعامل السعر دوره في دفع المنتجين إلى التحول إلى المحاصيل التي تشهد طلبا كبيرا من قبل المستهلكين.
لكن إذا أخذ وضع المحاصيل الغذائية الثلاثة هذه، فإن هناك هامشا ضئيلا، إذا كان موجودا، للتحول من زراعة القمح إلى الذرة الشامي أو فول الصويا مثلا. ومثل هذا الوضع ستكون له انعكاساته مثلا على جهود إنتاج الإيثانول والتوجه نحو الطاقة البديلة، التي شكلت عنصرا أساسيا في الخطة الأمريكية في طبعتها البوشية لتقليل اعتماد القوة الوحيدة في العالم على النفط المستورد من أسواق أجنبية.
هذه ظواهر يصعب وصلها مع بعض، وبالتالي يصبح السائد غياب رؤية موحدة ولو بصورة عريضة يمكن اللجوء إليها لتفسير ما تمر به السوق وانعكاسات ذلك على جوانب أخرى من الحياة والعلاقات الدولية. ففي الوقت الذي تترى فيه التوقعات والتحليلات عن تباطؤ اقتصادي في أحسن الأحوال، تبدو قاعدة العرض والطلب بعيدة عن الصورة، الأمر الذي يثير أسئلة عما إذا كانت الأسس التي يتحرك عليها العالم في حال مراجعة تتسق مع التقلبات والتطوارت التي تشهدها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فقد اتضح بصورة جلية أن قاعدة العرض والطلب بمفهومها التقليدي لم تعد تقدم تفسيرا مقنعا، فهناك عامل الانطباع والصورة الذهنية التي أصبحت مؤثرة بأكثر ما يبدو أن الكثيرين مستعدون للاعتراف لها بهذا الدور.
لكن إلى جانب هذا هناك التحول في مراكز القوة والتأثير، فالشقيقات السبع لم تعد هي التي تحدد قواعد اللعبة في السوق النفطية، وإنما برز تحد جديد من الشركات الوطنية ذات الاحتياطيات الكبيرة والمسنودة بدعم سياسي من حكوماتها. كذلك لم تعد ساحة الاستهلاك محددة في الدول الصناعية الغربية، وإنما برزت آسيا بصورة عامة والصين والهند تحديدا إلى جانب الدول النامية عموما مصدرا للاستهلاك مع تتالي موجات العولمة ودخول لاعبين جدد إلى السوق يضعون بصماتهم على ما يشهده العالم بصورة لم تحدث من قبل. لذا لم يعد سعر البرميل محكوما بما يجري في نيويورك ولندن وطوكيو فقط، وإنما بما تشهده بكين ونيودلهي والرياض. وفي أوقات التغييرات العظيمة تنبهم السبل ويتكاثر الضباب. فجحافل الليل لم تنسحب كلية وفجر اليوم التالي لم يبزغ بعد.

[email protected]

الأكثر قراءة