مَنْ يملك: أن تكون الدنيا في يده, لا في قلبه؟

[email protected]

لو كانت الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا, لشعرنا بطعم السعادة على حقيقتها, ولحلّت البركة في أموالنا, ولكنَّا ملوكاً للدنيا, لا خدَّاماً لها.
أما وقد كانت في قلوبنا, فقد ملكتنا ولم نملكها, وصرنا نخدمها, ولا تخدمنا, وأصبح للسعادة طعم آخر مزيف, نتذوقه بألسنتنا, ونتطعمه في حلوقنا, ولكن لا يتسلل إلى نفوسنا وقلوبنا, ونزعت البركة من أموالنا!!
لا تقولوا إنها ليست في قلوبنا...كلا.. كلا..
إنها في قلوبنا؛ لأننا نحب في الدنيا ونعادي فيها, فنحب للمصلحة وفيها ومن أجلها, وما إن تزول إلا ويزول الحب, وما إن ترحل إلا ويرحل الوصل والإخاء, ويحل محله القطيعة والهجران..., وربما مع أقرب قريب...!! حتى أصبحنا عبيداً للدرهم والدينار, ونسينا أنه قد (تعس عبد الدينار والدرهم, وتعس عبد الخميصة والخميلة...).
إنها في قلوبنا؛ لأننا نبحث عن المال بأي طريق, ولو بطريق الحرام..., ونسينا أن (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به).
إنها في قلوبنا؛ لأننا نتظاهر بالدين, ونغر الناس بمظاهرنا وأشكالنا؛ لنأخذ أموالهم باسم تشغيلها في مساهمة هنا أو هناك..., ثم نشغلها في تسويق هرمي, أو في سوق الأسهم, أو نختصر الطريق, فنلتهم أموال الناس باسم فشل المساهمة... أو تعثرها.., ونسينا أو تناسينا أن هذا من أكل أموال الناس بالباطل (...لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم...).
إنها في قلوبنا؛ لأننا نأكل الربا جهاراً نهاراً.., ونعلنه في قوائمنا المالية..., ونسينا أن هذا جزء من إعلان الحرب على الله تعالى: (... اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين, فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله...).
إنها في قلوبنا؛ لأننا نتحايل على الربا بأنواع المسميات, باسم الفائدة, أو باسم التورق المنظم, أو باسم التورق المقلوب..., ونسينا أو تناسينا أن (الحلال بيِّن, والحرام بيِّن..), وأن التحايل من أخلاق اليهود.
إنها في قلوبنا؛ لأننا نمارس الغش في كل شيء, حتى أصبح الغش عندنا شطارة, بل ثقافة!! فنغش في مجال المقاولات, والمناقصات, والمزايدات, والمبايعات..., نغش بإخفاء عيوب المنتجات, أو بتقليد الماركات, أو بتغيير المواصفات, في السيارات, أو في المأكولات, أو الملبوسات..., بل تفاقم الغش في سلوكنا حتى أصبحنا نغش بتزوير الشهادات, أو بشرائها من محال الخردوات...!! ونسينا أن الله قد عذب قوم شعيب؛ لأسباب, منها أنهم كانوا يمارسون الغش, فيطففون في الكيل والميزان, ويقولون (يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا, أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) فأرادوا أن تكون لهم الحرية الكاملة فيما يصنعون في أموالهم, فأهلكهم الله تعالى بالصيحة, وحذرنا نبينا من صنيعهم, وقال: (من غشنا فليس منا).
الدنيا في قلوبنا؛ لأننا نمارس في سوق الأسهم أنواع الكذب والتضليل والشائعات, ونغش فيه عبر أسلوب التكتلات, أو ما يسمى بـ (القروبات)..., ونفتقد الشفافية والإفصاح على مستوى مجالس الإدارات..., وننسى أننا أمة الصدق (...اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
إنها في قلوبنا؛ لأننا نفضِّل الأبعدين على الأقربين, فنبيع منتجاتنا في الخارج, وبلادنا تئن من قلة المعروض؛ لنحقق أرباحاً إضافية على حساب وطننا وشعبنا..., وننسى أن الشارع الحكيم قد أوصى بالقريب خيراً, وقال: (الأقربون أولى بالمعروف), هذا فيما هو من باب الإحسان, فكيف إذا حُرم القريب من منتجات بلده, وهو سيشتريها بحر ماله, من أجل أن تباع خارج حدود وطنه؟!
الدنيا في قلوبنا؛ لأننا نستغل موجة الغلاء, وتهيؤ الناس لزيادة الأسعار, فنرفع الأسعار, وندعي كذبا وزوراً أن الغلاء مستورد من الخارج, والواقع أن المنتج محلي 100 في المائة, أو ربما كان مستورداً, ولكنه في الحقيقة لم يتأثر بموجة الغلاء, ولكنا نأبى إلا أن نركب هذه الموجة؛ لتهيؤ الناس لها..., ونحلف أيماناً مغلظة أن ارتفاع الأسعار جاء قسراً, لا اختيارا..., وننسى أن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد توعد بالعذاب الأليم (المنفق سلعته بالحلف الكاذب), وأن (البيِّعان إذا كتما وكذبا, محقت بركة بيعهما).
إنها في قلوبنا؛ لأننا نسجل العقود, ونقبل بالشروط, ثم لا نفي بها, ويكون تسجيلنا لها آخر العهد بها..., وننسى أننا أمة (..أوفوا بالعقود...).
إنها في قلوبنا؛ لأننا نـتزوج النساء الموظفات, ونأخذهن من بيوت آبائهن معززات مكرمات, فنتزوجهن لا لنكرمهن, ونحسن إليهن, ولكن لنبتزهن, ونسطو على رواتبهن, وإذا لم يستجبن لمطالبنا, نساوم عليهن آباءهن, لنسترد المهر وربما تكاليف الزيجات, فيخضعن ويستسلمن..., وننسى أن الشارع قد أوصانا بالنساء خيراً, ونهانا أن نساوم بهن, فقال:(ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن...).
إنها في قلوبنا؛ لأننا نعلمّ وندرس لنأخذ فقط, لا لنخرِّج الأشبال, ونربي الأجيال, وننسى أننا أمة التربية والتعليم, فتركنا الأول, وفرطنا في الثاني.
إنها في قلوبنا؛ لأننا نبيع ضمائرنا, لنقبض المال, وما أرخص الضمائر في سوق النفاق! ويقبح البيع والشراء حين يكون على حساب الدين أو الوطن, وتزيد هذه المعاوضة قبحاً حين تغيب الصفقة ويظهر أثرها باسم الوطنية أو الحرية أو الإنسانية... إلخ, وتزداد الصفقة خطراً حين يغيب هذا كله عن عين الراعي والرعية, وكل ذلك غش وحرام, يمنعه الانتماء للدين الإسلامي, والحس الوطني, ويرفضه الشرف, ويمجُّه الإباء, وأنى لشريف وأبيّ أن يبيع ضميره بثمن بخس دراهم معدودة!! وللأسف, فقد قل الشرف, وانحسر الإباء, فرخص الضمير, نتيجة لكثرة العرض, وقلة الطلب, فظهر من يوظف قلمه ليهدم شعائر دينه, ويقوِّض أركان وطنه, ليبني على أنقاضه دولة علمانية غربية, بلباس عربي, وكوفية عربية, وظهر من يوظف لسانه ليستبيح به الدين وأهله, من أجل دنيا فانية..! وأغرب من هذا وذاك من باع ضميره وهو لا يدري, ولا يدري أنه لا يدري, وباع معه نفسه ومهجته, ففخخ وجهز ودبر وفكر وقدر؛ ليقتل الإنسان, وينسف البنيان, ويقوض الأركان...!!
هل بعد هذا كله, نقول: إنها في أيدينا, وليست في قلوبنا؟
ولنعد بشريط الذاكرة إلى ذلك العصر الذهبي, عصر النبوة والرسالة, عصر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ, والذي أتته الدنيا وهي راغمة, فحكم الدولة الإسلامية, فما ملكت عليه قلبه, بل كان يملكها, فيكسب المعدوم, ويحمل الكل, ويقري الضيف, ويعين على نوائب الحق, وهكذا كان سلفنا الصالح, ومن سار على نهجهم إبان القرون المتعاقبة..., يملكون الدنيا, وما تملكهم, ويأخذون منها ما أباح الله تعالى, ويتقلبون في نعمه, ويشكرون ولا يكفرون...
وفي عصرنا الحاضر نماذج حية, أخذت من الدنيا ما أباح الله تعالى, وبذلوا منها للمحتاج والفقير والمسكين... الشيء الكثير..., والبذل والنفقة أكبر دليل على حرية الغني, وعدم عبوديته للمال..., ولو أردت أن أقف على بعض هذه النماذج, لطال بنا المقام.
ولكن أكتفي من ذلك, بنموذج عشته, وترعرعت في كنفه, وقديما قيل: "ليس الخبر كالمعاينة" فقد كان والدي - الذي توفي رحمه الله قبل أيام - كان من النماذج العجيبة في بذل المال, وإنفاقه في سبيل الله, حتى يعود بالذاكرة إلى الرعيل الأول, لقد كان منذ عرفته, يبذل المال للفقراء والمساكين, والمحتاجين والمنكوبين, في طول العالم وعرضه - مع كونه من متوسطي الدخل - فكان حريص أن يبحث عن الفقير المتعفف في موطن إقامته, فيبذل له المال ليسد حاجته, وكثيراً ما كان يقطع مئات الكيلومترات؛ ليفتش عن المسكين المتعفف, ويبحث عن الفقير الذي لا يسأل الناس إلحافا, ولم يكن - رحمه الله - يرد سائلا, بل كان الفقير يطرق بابه, فيعطيه من المال ما قسمه الله له, ثم يطرق الباب, فيعطيه أخرى, وأحياناً يصر الفقير على طلب المزيد من المال, فيدخل المنزل قسراً, ويلحف في المسألة, حتى ينال من المال ما سأل, وربما طلب ثياباً.., فأعطاه من ثيابه.., حتى ربما لم يبق من ثيابه إلا ثوبين أو ثلاثة؛ إرضاء للفقير, وتقللا من الدنيا, وزهداً فيها..., وله من المواقف العجيبة ما يقف أمامها السامع مندهشاً, أو ربما مكذبا!! فرحمه الله رحمة واسعة, وأسكنه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وأساله سبحانه أن يجعلنا جميعاً, والقراء الكرام من أهل كرامته, ورضوانه, آمين, آمين, آمين...

أستاذ الفقه المساعد في المعهد العالي للقضاء

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي