رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


العولمة وتساؤلات "أولاد حارتنا"

[email protected]

لا ينكر عاقل وجود العولمة الاتصالية وفاعليتها في إعادة تشكيل الوعي العالمي بعد أن كانت الوسائل الاتصالية المحلية في كل دولة من الدول هي الأكثر فاعلية في تشكيل هذا الوعي، ولا ينكر عاقل أيضا أن الوسائل الاتصالية الرسمية في معظم الدول أصبحت في أضعف حالاتها خصوصا الدول الغنية التي تستطيع شعوبها شراء التقنية الحديثة التي تمكنهم من الاستفادة من الوسائل الاتصالية العالمية الحديثة خصوصا المحطات الفضائية العالمية والمواقع الإلكترونية عالمية المنشأ مثل اليوتوب والفيس بوك وغيرها والتي أصبح أعضاؤها النشطون يقدرون بعشرات الملايين.
إذن نحن أمام حقيقة تقول إن وعياً جديداً بذرت بذرته العولمة الاتصالية، وأن هذا الوعي آخذ في التراكم في أذهان صغارنا فضلا عن كبارنا، وأن هذا الوعي سينشئ وعياً بديلاً مغايراً للوعي الحالي، وأن مرحلة تصادم ثقافي شديد تلوح في الأفق إن لم تكن قد وقعت بالفعل، وأن علينا أن نحث الخطى للتعامل مع هذا الوعي الجديد، وأن نركز جهودنا في مساحة التعامل بدل أن نركز جهودنا في مساحة التصدي لوسائل العولمة الاتصالية، حيث أثبتت التجارب السابقة أن التركيز على مساحة المنع سيزيد من لهفة أبنائنا على التواصل مع تلك الوسائل بدل العزوف عنها.
أسئلة جديدة وغير مألوفة بدأت تطرح من صغار وشباب هذه المرحلة، أسئلة عقلانية لا عاطفية، أسئلة تقول إن العقل بدأ يعمل بطاقة عالية نتيجة ارتفاع قدراته التحليلية والتشخيصية، حيث أصبح لا يتقبل كل ما يرسل له من والديه أو من معلميه أو من مشايخه أو من مسؤولية دون أن يمحصه قبل أن يرسخ في ذهنه، بخلاف الماضي، حيث كانت الأغلبية تتلقى كل ما يقال لها أو ما تقرأه وكأنه حقيقة مطلقة، حتى كنا نستشهد بأقوال الوالدين وأقوال الصحف والتلفاز والإذاعة على أنها أدلة دامغة، ولطالما سمعنا من يقول أنه قرأ في الجريدة ما يريد أن يثبته فصدقناه، وبدأنا ننقل ما قاله لنا على أنه حقيقة ودليل ذلك أنه قرأها من الجريدة، ولم يدر في خلدنا أن ما كتب في الجريدة جهد بشري يحتمل الخطأ والصواب.
لم يعد السكوت ممكناً لدى جيل الشباب الحالي الذي يشكل أكثر من 65 في المائة من المجتمع السعودي الفتي، حيث بدأ الكل ينطق متسائلا باحثا عن إجابات مقنعة تخاطب العقل الإنساني لا ردود فعل قامعة في صورة نهي أو ردع أو حث للابتعاد عن هذه الأسئلة، أو اتهامات بالكفر والإلحاد والعلمنة والخيانة إلى غير ذلك من التهم التي لم تعد فاعلة في إقصاء المتسائلين بقدر ما أصبحت فاعلة في ازدراء قائليها ومردديها.
ولا شك أن مهمة الإجابة عن التساؤلات التي بدأت تنطلق هنا وهناك والمتوقع لها أن تتزايد كما ونوعا نتيجة التقدم التقني الاتصالي المتواصل هي مهمة صعبة وشاقة، خصوصا إذا كانت الأسئلة تمس أوضاعا اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية راسخة توازن المجتمع عليها عبر فترة طويلة من الزمن، وأي إثارة لتلك الأوضاع يدخل المجتمع في اختلالات تلامس مصالح فئات عديدة مستفيدة من الأوضاع القائمة، وبكل تأكيد فإن تلك الاختلالات تزداد شدتها إذا كانت المجموعات المستفيدة من الأوضاع القائمة لا تستطيع أن تفكر بمجريات المستقبل إذا لم تبادر هي بذاتها لتعديل تلك الأوضاع بما يتوافق مع التغيرات المتسارعة في عالم انفتح على بعضه بعضا بشكل سريع، حتى أصبح جمع من أطفالنا ما دون سن الخامسة يشجعون نادي برشلونة، بينما جمع آخر يشجع ريال مدريد.
أسئلة متعددة (لماذا؟ كيف؟ متى؟ أين؟ هل؟)، أسئلة بديهية وواسعة وشاملة وجذرية في الدين، في الجنس، في السياسية، في الاقتصاد، في العادات والتقاليد، في التاريخ، أسئلة تطرح بشكل تجريدي وتبحث عن أجوبة غير تقليدية. أجوبة عميقة تتجاوز السطح وتحفر في العمق، أجوبة مقنعة تهدئ من روع السائل وتسكِن نفسه وجوارحه، والأمثلة على هذه الأسئلة كثيرة ولا حصر لها، حيث تتزاحم تلك الأسئلة في المنتديات والمواقع الإلكترونية والفضائيات دون أن تجد إجابات شافية من الأعلام المعروفين في مجالاتهم لتترك الساحة لأسماء مستعارة تقدم إجابات لا يرتكز معظمها على معارف وخبرات واسعة وأصيلة مما يزيد الطين بلة.
ماذا نفعل مع تساؤلات أولاد حارتنا الذين فتحت العولمة أعينهم على ما لم يكن في الحسبان فشكلت لهم وعيا جديدا انعكس على مواقفهم وسلوكياتهم؟ أعتقد أنه حان الوقت لاستنهاض العقول بدلا من تعجيزها وإطلاق طاقاتها بدلا من كتمها، وذلك من خلال مناقشة مفردات الوعي الجديد مناقشة علمية، والإجابة عن التساؤلات المطروحة بشكل علمي بعد تقبلها مهما كانت حدتها وصراحتها، ومن خلال تعزيز قدرات أفراد المجتمع على التعامل مع هذا الكم الهائل من المعلومات المتنوعة بالشكل الذي يمكنهم من الاستفادة من سمينها وتجنب غثها، ولا شك أن التعليم سيتحمل الجزء الأكبر من هذه المهمة، حيث يقضي أبناؤنا أكثر من 16800 ساعة تعليم خلال الـ 12 عاما، وهي السنوات التي يقضونها في مراحل التعليم العام، وهي ساعات كافية لتشكيل وعي سليم يتناسب ومعطيات الحاضر والمستقبل إذا أحسنا استثمارها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي