رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


حوار .. في مدريد

"سارت معي والشعر يلهث خلفها / كسنابل تركت بغير حصاد
يتألق القرط الطويل بجيدها / مثل الشموع بليلة الميلاد
قالت: هنا (الحمراء) زهو جدودنا / فاقرأ على جدرانها أمجادي
أمجادها؟ ومسحت جرحا نازفا / ومسحت جرحا ثانيا بفؤادي
يا ليت وارثتي الجميلة أدركت / أن الذين عنتهم أجدادي
عانقت فيها عندما ودعتها / رجلا يسمى طارق بن زياد!!"

هكذا انهمر غيم الشعر تحت وهج ذكريات تاريخ سطعت شمسه في وجدان الراحل الكبير الشاعر نزار قباني، وهو يمشي خلف دليلته السياحية في إسبانيا قبل نحو خمسة عقود.
وغدا.. في إسبانيا نفسها، يقف العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، راعيا لمؤتمر حوار الأديان في مدريد.. الرجل والمكان لهما دلالات رمزية مكثفة، فقد عهد العالم الملك عبد الله داعية سلام ووفاق، مسكون بـ (السلام عليكم) مأسور بوحي: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، (لا إكراه في الدين)، (لكم دينكم ولي دين) أما المكان فقد كان أندلس العرب بالأمس، إسبانيا اليوم، مشرق شمس حضارة العالم المتقدم، كما شهدت بذلك المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة في كتابها: "شمس العرب تسطع على الغرب". ومع ذلك مثلت إسبانيا، برزخ إسراف البشر على أنفسهم، فعندها دارت رحى البغضاء وسن نصل التعصب حده في الرقاب. وتم تشييع عصر مبجل إلى مثواه وخاطت سنابك خيل الفرنجة دول عالم آخر، لفظ فيه البحر أحفاد طارق بن زياد، لم يبق سوى اسمه على جبل كما بات فيه صقر قريش (عبد الرحمن الداخل) خارج أسوار المهابة وقد غطس خلفاؤه في وحول الصغائر، فصلبهم التاريخ على خشبته، سماهم بملوك الطوائف، وترك لنا سخرية مرة عنهم بكلمات أم آخرهم (عبد الله الصغير) وهي توبخه:
"إبك مثل النساء ملكا مضاعا / لم تحافظ عليه مثل الرجال!!"
ولتكون السخرية ذاتها علامة فارقة على تبدل المصائر، إذ تصبح سنة اكتشاف أمريكا (1492م) هي نفسها سنة ضياع الأندلس.. بعدها كرت فصول المحنة بتوالي الغزاة: صليبيين، مغول، عثمانيين، تتار ثم استعمار رحل من الأبواب، وعاد من ثقوب عيوبنا حتى أدخلنا "العم سام" في صدام حضارات وفي محاكم تفتيش وفي (هولكوست) سيكولوجي: (من ليس معنا فهو ضدنا) وخصّ أهل الإسلام بالوزر وحدهم جراء ما فعله شذاذ منهم.

غداً مؤتمر حوار الأديان.. والأكيد .. إن الأديان نفسها لا تتحاور .. أتباعها ومعتنقوها يفعلون ذلك لأن جوهر الأديان في الناس المسرة وعلى الأرض السلام رغم الأناشيد القومية المضللة، والنعرات البغيضة ككلمات شاعر البلاط البريطاني "رديارد كيلنج" الذي بنى بها سور صين عنصريا بقوله: (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا!!)، فيما كان رجل اسمه (توم بين) وهو أحد الآباء المؤسسين للثورة الأمريكية قد قال قبل نحو 200 عام: (العالم قريتي) ليس بقصد الحديث عن المدينة الفاضلة للفارابي أو توماس مور أو جمهورية أفلاطون ولا حتى عن جنة الكادحين على الأرض التي شطح بها خيال ماركس تحت هيمنة ديكتاتورية البروليتاريا أو تحت تلقائية "الحكومة التي لا تحكم" كما تخيل فيلسوف الفوضوية (باكونين)، وإنما بقصد التواصل والحوار بين الشعوب فهو شرط تقدم الإنسانية، أو كما قال: (إذا طرق الرقي باب أمة سأل: أهنا حرية فكر؟!) والحوار هو حرية الفكر، هو النقاش الذي قال فيه (أرسطو): (من النقاش ينبثق النور)، الذي فهمه جدنا الإمام الشافعي بـ (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) وليس (باب سد الذرائع) ولا المكارثية والجستابو والأخ الأكبر التي تسللت تحت دامس غلوئها عفاريت التطرف، حتى اصطلت الدنيا بسعير الإرهاب، فما من بلد إلا وضربه متطرف ضال باسم الإسلام أو متطرف حانق مسيحي، يهودي، سيخي، هندوسي، بوذي أو حتى لا ديني، حتى بدا وكأن التاريخ البشري سجل لـ (نبذ الآخر) أكثر منه حوار معه وأنه مدونة دموية لفظائع من أرادوا الاستئثار بـ (قرية العالم) وقذف غيرهم إلى الجحيم!!
لقد نص مؤتمر حوار الأديان على (الأديان) كونها الرحم الذي تناسلت منها الثقافات والفلسفات والأفكار وبالتالي فهو مؤتمر حوار الإفهام والعقول.. فهل يأخذ هذا المؤتمر عالمنا إلى معراج وعي ثاقب وملتقى ضمير حي من أجل احترام إنسانية الإنسان؟ إنه لو أفلح في مقاربة إنجاز هذه المهمة فتلك بشرى بلوغ العالم سن الرشد!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي