رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


قطع الأيدي الخائنة.. أم جز الرؤوس الآمنة؟

[email protected]

في يومي الإثنين والثلاثاء نشرت "الاقتصادية" مشكورة تحقيقاً حول جرائم السرقات التي يشتد سعارها في إجازة الصيف, وهي قضية مهمة أصبحت تقلق المواطن في حضره وسفره, وفي تقديري أن نشر مثل هذه التحقيقات يثري الموضوع من الناحية الواقعية, كما يسهم في نشر الوعي حول هذه الظاهرة المزعجة, ولذا نأمل من وسائل الإعلام كافة, تسليط الضوء حول هذه الظاهرة, وذلك لعلاجها اجتماعياً, وسلوكياً, وأمنياً.. إلخ, وأعتقد أن من أهم أدوات العلاج, علاجها من الناحية القضائية, وذلك بإصدار الأحكام القضائية الرادعة متى وجدت الأدلة الكافية لثبوت جريمة السرقة.
وبالنظر إلى واقع الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم الشرعية فيما يخص هذه الجريمة, نجد أنها تستند في بعض تفصيلاتها إلى اجتهادات فقهية, قابلة للنقاش العلمي, وإعادة النظر في الأخذ بهذا الرأي أو ذاك, ولننظر إلى واقعة سرقة وقعت في المملكة, ورفعت إلى إحدى المحاكم الشرعية للبت فيها, وصدر فيها حكم قضائي, وملخص هذه الواقعة:
أن المدعي العام ادعى على الحاضرين معه, وهم: (م, أ) , و(ع,أ), و(ف,م), و(أ,ع) قيامهم بسرقات عديدة, وبالتحقيق معهم اعترف الأول 41 سرقة, منها سرقة أجهزة من أحد المنازل عن طريق القفز فيه, كما اشترك في سرقة أجهزة كهربائية, وأسطوانات غاز, وأثاث أكثر من 19 منزلاً, وسرقة سيارات, وسرقة أغراض وأثاث من أكثر من 14 سيارة, كما اعترف الثاني والثالث بسرقات مشابهة لما اعترف به الأول, وأكثرها كانت مشاركة بينها وبين الأول, وقد تطابقت بعض اعترافات الأول والثاني والثالث بمشاركة الرابع لهم في كثير من السرقات, كما تطابقت اعترافاتهم من البلاغات المقدمة أثناء وقوعها.
وباصطحاب المدعى عليهم, كلٌ على حدة, قاموا بالدلالة على بعض المواقع المسروقة. وبمناقشة أصحاب المواقع المسروقة أفادوا بما اعترف به المذكورون.
وبعرض ذلك على المدعى عليهم أجابوا جميعاً أن ما ذكره المدعي العام في دعواه غير صحيح.
وبسؤال المدعي العام: هل لديه بينة أفاد أن بينته ما تضمنه ملف القضية من اعترافهم المصدق شرعاً, إضافة إلى القرائن الأخرى المذكورة.
وبسؤال المدعى عليهم عن ذلك, أجابوا جميعا قائلين: لقد صادقنا على اعترافاتنا لدى المحكمة بسبب شدة التحقيق.
ثم صدر الحكم الشرعي: بتعزير كل واحد منهم بالسجن أربع سنوات, وبجلد كل واحد منهم 500 جلدة مفرقة. وكانت مسوغات هذا الحكم: أن جميع المدعى عليهم قد أنكروا ما نسب إليهم, ورجعوا عن اعترافاتهم المصدقة شرعا؛ لذا لم يظهر للقضاة ما يوجب إقامة حد السرقة على المدعى عليهم, مما يدل على أن شروط إقامة الحد قد توافرت, وتخلف دليل الإدانة, ثم حكموا عليهم تعزيراً بالسجن والجلد, للقرائن المذكورة, وقد صدق الحكم من التمييز؛ لعدم ظهور ما يوجب النقض.
وهنا أقف وقفة حول إسقاط حد السرقة؛ بمجرد رجوع المدعى عليه عن اعترافه, وهي مسألة مهمة جداً, ولدي عدد من القضايا التي حُكم فيها بإسقاط الحد, لرجوع المقر عن اعترافه, وغالباً ما يتراجع عن إقراره؛ بحجة أنه تعرض لنوع من التهديد والإكراه لدى الجهات المختصة, وإسقاط الحد بالرجوع عن الإقرار, سواء بدعوى الإكراه, أو لمجرد النكوص عن الإقرار هو مذهب أكثر الفقهاء, ولكن هناك رأي آخر, يتأكد الأخذ به, لا سيما في ظل تنامي ظاهرة السرقة, وهو أنه لا يقبل الرجوع عن الإقرار فيما يوجب حداً, وهو رواية عن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ, والأخذ بهذا الرأي, لا سيما مع دلالة القرائن على السرقة, هو مما يتأكد القضاء به؛ إذ لا يمكن دفع شر هؤلاء السراق إلا بتبني هذا الرأي قضاء, ولو كان الرجوع عن الإقرار مسوغاً لإسقاط حد السرقة, لما أقيم حد السرقة إلا في صور نادرة جداً, وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ, حيث قال: "إسقاط العقوبة بالتوبة - كما دلت عليه النصوص - أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قُبِل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار- مع أنه قد يكون صادقاً- فالرجوع الذي هو فيه كاذب أولى"أهـ
وبالنظر إلى القضية المذكورة نجد أن المدعى عليهم قد أدينوا بقرائن عديدة تدل على تورطهم في جرائم السرقة هذه, ولهذا لا يتوجه القول بإسقاط الحد بمجرد الرجوع عن الإقرار؛ مع وجود القرائن الدالة على كذبهم, وهذا ما اختاره الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ, حيث قال: "وأما مع وجود القرينة فلا وجه لقبول رجوعه، ولا يمكن أن يكون هذا القول عملياً في أحوال الناس, لاسيما مع كثرة السرقات"أهـ.
إن إسقاط حد السرقة؛ بحجة وجود الشبهة وحسب, سيسهم في استمرار الجريمة, بل وفي تناميها, يوماً بعد يوم.
فعدم إقامة حد السرقة؛ بحجة رجوع المقر عن إقراره.
وعدم إقامة حد السرقة؛ بحجة أن إيقاف السيارة وإغلاقها خارج المنزل لا يعد حرزا.
وعدم إقامة حد السرقة؛ بحجة أن الحد لا يثبت بالقرينة, وإنما يثبت بالإقرار أو الشهادة.
كل هذا ونحوه, سيضعف من محاصرة الجريمة, وتطويقها, ولهذا قال العلامة ابن القيم في الطرق الحكمية: "ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة, والإقرار"أهـ.
إن تفعيل حد السرقة, بقطع الأيدي الخائنة, والتي تسللت إلى البيوت الآمنة, فأبدلت أمنها خوفاً, لهو كفيل بإعادة الأمن إلى المجتمع, لاسيما إذا أعلن الحد, ولا ينبغي أن يصدنا عن ذلك من يطرق أسماعنا بحقوق الإنسان؛ لسببين رئيسين:
1- أن قطع الأيدي الخائنة يسهم إسهاماً مباشراً في المحافظة على حقوق الإنسان, لا العكس, وذلك لأن تلك الأيدي قد روعت الأهالي, وأزعجت الآمنين, وربما كانت سبباً في إزهاق أنفس محترمة, وكم سمعنا من حوادث سرقة قد تحولت إلى جرائم قتل بفعل تلك الجريمة, فإذا ما عوقبت تلك اليد بالقطع, ارتدع كل مجرم تسول له نفسه العبث بأموال الناس, ومقدراتهم, وبالتالي ينعكس ذلك إيجاباً على حقوق الإنسان في نفسه, وماله, وأمنه.
2- إن من يدعي المحافظة على حقوق الإنسان لم يوقف حتى هذه اللحظة هذا الدم النازف في أرض فلسطين, والعراق, وأفغانستان, والصومال.., والذي استباحت فيه بعض الدول - الرافعة لهذا الشعار- دولاً آمناً, فأزهقت نفوساً معصومة, وجزت رؤوساً بريئة, وعذبت أجساداً آمنة, واستباحت أموالاً محترمة, فمن يمارس هذا التنكيل والتعذيب, هو من يستحق التشهير, والملاحقة القانونية, لا من يلاحق المجرمين, ويتعقبهم, ويقطع دابرهم.

أستاذ الفقه المساعد في المعهد العالي للقضاء

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي