القوى البشرية والفرص الضائعة
كلما استعيد زمن الطفرة بداية من التسعينيات الهجرية، وما حققناه خلالها وأنجزناه من نهضة تنموية كبرى كانت وما زالت فارقة حين نقلتنا من بلد بسيط إلى بلد متطور واكب حركة العصر، أشعر بأننا أفلتنا فرصة ما زلنا نتحسر عليها حتى اليوم وهي فرصة عدم عنايتنا واهتمامنا بتهيئة وتأهيل قوى بشرية تكون قادرة مع مرور الوقت على أخذ مواقع اليد العاملة الأجنبية التي كان مفهوما استقدامها آنذاك للقيام بأعمال التشغيل والصيانة المختلفة، فقد كان مهما وقتها أن نهتم بمواكبة حركة البناء والعمران والتشييد المادي ببناء قدرات بشرية في مختلف المجالات وبشكل محدد وممنهج، إلا أننا وبكل أسف لم نلتفت في تلك الفترة إلى أهمية التدريب المتخصص والنابع من صلب سوق العمل ذاتها، ومع أننا التفتنا إليه بعد سنوات حين تم إنشاء مؤسسة عامة للتعليم الفني والتدريب المهني وحاليا المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، إلا أن السلبية هنا هي أننا مارسنا عملية التدريب بعمومية وليس وفق خطط تدريبية متصلة ومرتبطة بسوق العمل، ونتيجة لهذه السلبية لم تستطع برامج المؤسسة التدريبية أن تضخ قوى بشرية فاعلة في سوق العمل، وشاهد ذلك أن سوق عملنا لا تزال معتمدة على اليد العاملة الأجنبية.
كان يجب، في اعتقادي، أن تقوم استراتيجيتنا في التدريب على تشجيع القطاع الخاص، الذي أسهم ولا يزال في عملية النهضة الشاملة واستفاد أيضا من فرصها ماديا على الاعتناء بتكوين قاعدة قوى بشرية من خلال إسهامه في عملية تدريب كل في مجاله وتخصصه لمواكبة نهضتنا المادية بنهضة بشرية في الوقت نفسه، وذلك عن طريق إلزام شركات القطاع الخاص كجزء من مهامها بإنشاء مراكز تدريب يكون هدفها تحديدا تغطية حاجتها من القوى البشرية السعودية وإحلالها محل اليد الأجنبية بالتدريج، وأن يتم ذلك وفق حاجة سوق العمل حسب تخصص كل قطاع وبشكل مباشر. ولجعل عملية التدريب المطالب بها القطاع الخاص جزءا من سياسة الدولة ونظرتها الاستراتيجية كان يمكن تولي وزارة العمل عملية الإشراف على برامج التدريب ودعمها وتشجيعها بمشاركة الغرف التجارية والصناعية، فمثل هذه النظرة لو طبقت منذ وقت مبكر لكنا الآن نمتلك كوادر فنية ومهنية سعودية اكتسبت الخبرة والمهارة بما يخفف كثيرا من استقدام عمالة قليلة المهارة اكتسبتها في سوقنا كتدريب مجاني لها، وغياب مثل هذه الاستراتيجية التدريبية لمواكبة حاجة السوق من اليد العاملة المدربة بتواز مع المشاريع النهضوية هو ما أدى إلى عزل التدريب الذي تقوم به وتشرف عليه الدولة بالكامل من خلال مؤسسة التعليم الفني والتدريب المهني عن سوق العمل، وإلى صرف مليارات الريالات في برامج تدريب عمومية لم تنجح في تأهيل متدربين قادرين على الانخراط المباشر في سوق العمل.
ولتوضيح ما قصدته بالتحديد، أضرب مثلا بمجال تحلية مياه البحر، فنحن من الدول الرائدة والأولى على مستوى العالم في التحلية، التي بدأناها منذ أكثر من 80 عاما (1348 ـ 1928)، فيما عرف بـ "الكنداسة" وحتى إنشاء مؤسسة مستقلة، وبعد 80 عاما كان يفترض أننا امتلكنا تقنية تشغيل وصيانة وتطوير، بل وتصنيع محطات تحلية مياه البحر، وهو ما لم يحدث بكل أسف.
خطر لي هذا الموضوع وأنا أقرأ في "الاقتصادية" يوم الخميس 26/6 عن عزم عدد من شركات المقاولات الاندماج في شركة مقاولات عملاقة برأسمال يصل إلى خمسة مليارات ريال، وأجزم بأن أول مشاريعها هو التقدم بطلب آلاف التأشيرات، ماذا لو ربطت الموافقة لها باشتراط إنشاء مركز تدريب لكل جزئيات مهن الإنشاء والتعمير؟ وسد جزء من احتياجها من خريجي معاهد المراقبين الفنيين، أليست هذه المهن أهم وأجدى من الحلاق والنادل؟