العملة الموحدة تمنح دول الخليج فرصة لمواجهة الأزمات بسياسة نقدية موحدة

العملة الموحدة تمنح دول الخليج فرصة لمواجهة الأزمات بسياسة نقدية موحدة

تستحوذ دول الخليج العربية على 45 في المائة من احتياطات النفط المؤكدة عالميا، كما تسيطر هذه الدول على 25 في المائة من احتياطيات الغاز العالمية مما يجعل الاستقرار الاقتصادي والسياسي لهذه المنطقة هدفا منشودا من العالم كله بشكل عام، ومن مواطني هذه الدول بشكل خاص. ولذلك يعلق مواطنو دول مجلس التعاون آمالهم وطموحاتهم على هذا المجلس من أجل تحقيق الرفاهية الاقتصادية المتناسبة مع إمكانات دول المجلس الاقتصادية. وبناء على ذلك فإننا نريد تسليط الضوء على المسيرة الاقتصادية التاريخية لدول المجلس في المضمار الاقتصادي خلال العقود الثلاثة المنصرمة.
في البيان الختامي للدورة الـ 28 للمجلس الأعلى لدول الخليج العربية التي انعقدت في الدوحة في الرابع من كانون الأول (ديسمبر) 2007م، وافق قادة المجلس على إطلاق السوق الخليجية المشتركة مع إطلالة عام 2008م، وهذه الخطوة تعد مرحلة متقدمة من مراحل التكامل الاقتصادي المؤدية لإصدار عملة خليجية موحدة في كانون الثاني (يناير) 2010.
بعد إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية في أيار (مايو) 1981م، وافق المجلس الأعلى في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه على "الاتفاقية الاقتصادية الموحدة" ولكن لم تشر هذه الاتفاقية إلى الخطوات اللازمة لإصدار عملة خليجية موحدة، وإنما أشارت إلى الخطوط العامة "لتنسيق" كل من السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية والمصرفية بين دول المجلس للوصول إلى عملة موحدة في المستقبل. كذلك أشارت الاتفاقية إلى موعد انطلاق منطقة التجارة الحرة بين دول المجلس في كانون الثاني (يناير) 1983م. وهذا ما تم فعلاً مع إطلالة عام 1983م حيث أزالت دول المجلس جميع الحواجز الجمركية بينها على جميع السلع ذات المنشأ الوطني. المثير للانتباه أنه منذ عام 1983م وحتى نهاية التسعينيات كان التنسيق الاقتصادي دون المستوى المأمول، وربما يعود ذلك للأحداث المتتالية التي عصفت في المنطقة كالحرب العراقية الإيرانية وحرب تحرير الكويت وما تبعهما من آثار اقتصادية.
وفي عام 2001م وخلال قمة مسقط عاود المجلس نشاطه مجددا باعتماد "الاتفاقية الاقتصادية بين دول مجلس التعاون" لتحل محل "الاتفاقية الاقتصادية الموحدة" الموقعة في العام 1981م. وقد رسمت الاتفاقية الاقتصادية الجديدة خريطة طريق واضحة وجدولا زمنيا دقيقا لإصدار عملة خليجية موحدة في كانون الثاني (يناير) 2010م. وتعد هذه الخطوة نقلة نوعية قامت بها دول المجلس لتنتقل من مرحلة "التنسيق" إلى مرحلة "التعاون المتكامل" المشترك من أجل التمهيد للوصول للعملة الخليجية الموحدة. وكانت خطة عمل الاتفاقية الاقتصادية الجديدة تتكون من خمس خطوات:
- تثبيت كل عملة خليجية مقابل الدولار قبل نهاية عام 2002م. (في أيار (مايو) 2007م وبسبب التضخم قامت الكويت بفك ارتباط عملتها بالدولار وربطها بسلة عملات).
- إطلاق الاتحاد الجمركي في كانون الثاني (يناير) 2003م.
- الاتفاق على بعض معايير التقارب (النقدية والمالية)، كتحديد نسبة الفائدة والتضخم، ونسبة العجز للناتج المحلي، ونسبة الدين العام للناتج المحلي قبل نهاية عام 2005م.
- إطلاق السوق المشتركة في كانون الثاني (يناير) 2008
- إطلاق العملة الموحدة في كانون الثاني (يناير) 2010
- إصدار العملة الموحدة في 2010

فإذا تمكنت دول المجلس من تحقيق هدفها بإصدار عملة خليجية موحدة في 2010م بالتزامن مع إنشاء السلطة النقدية الخليجية التي ستقوم باتخاذ وتنفيذ سياسة نقدية واحدة لكل دول المجلس، فإن هذه السلطة النقدية ستتخذ قراراتها بناء على التطورات الاقتصادية المشتركة بين دول المجلس وليس فقط التركيز على التطورات الاقتصادية في دولة ما بعينها. وبما أن دول المجلس ليست متساوية من حيث الحجم الاقتصادي، فإن هذه السلطة النقدية ستأخذ بعين الاعتبار الوزن الاقتصادي لكل دولة من دول المجلس عند اتخاذ أي سياسة نقدية. فمثلا تعد البحرين الأقل وزناً بين دول المجلس من حيث الحجم الاقتصادي، وبالتالي فعندما تواجه أي هزة اقتصادية منفردة عن باقي دول المجلس فلن يكون في مقدورها استخدام السياسة النقدية كأحد الحلول لهذه الهزة، ومن ثم فلا بد حينها من اللجوء إلى استخدام السياسة المالية أو أسواق المال كحلول بديلة. لذلك ومن أجل اتخاذ وتنفيذ أي سياسة نقدية حكيمة وفاعلة على مستوى دول المجلس فمن الأهمية بمكان أن تكون التطورات الاقتصادية متشابهة إلى حد كبير بين دول المجلس.

معايير التقارب في الاقتصاد الخليجي
ان معايير التقارب - التي كان متفقا عليها بين دول المجلس في نهاية عام 2005م - ليست مهمة فقط في مراحل التمهيد لإصدار عملة خليجية موحدة، بل إن بعضها مهم جداً حتى بعد إنشاء الاتحاد النقدي. وفي النظريات الاقتصادية جرت العادة على تقسيم معايير التقارب إلى ثلاث مجموعات:
أ - معايير التقارب النقدي.
ب - معايير التقارب المالي.
ج - معايير التقارب الحقيقية.
وقبل التطرق إلى المعايير بالتفصيل، أود أن ألفت انتباه القارئ الكريم، إلى إن كل معايير التقارب النقدية والمالية المتفق عليها هي معايير إرشادية فقط لدول المجلس وليست معايير إلزامية، وبالتالي يكون القرار النهائي بإنشاء الاتحاد النقدي هو قرار سياسي بالدرجة الأولى من قبل قادة دول المجلس ثم قرار اقتصادي بناءً على تنفيذ بعض أو كل معايير التقارب. أما في حالة الاتحاد النقدي في الاتحاد الأوروبي، فقد تم قبول جميع الدول التي قامت باستيفاء جميع معايير التقارب مع تأجيل دخول بعض الدول في منطقة اليورو إلى حين استيفاء باقي متطلبات تلك المعايير.

معايير التقارب النقدي
يعني التقارب النقدي توحيد المتغيرات الاقتصادية المرتبطة بالسياسة النقدية مثل معدلات الفائدة، ومعدلات التضخم، وأسعار الصرف. ويتضح أن معدلات الفائدة في دول المجلس مقارنة بمعدل الفائدة في الولايات المتحدة من الفترة من 1981م إلى نهاية عام 2006م. وكما يتضح فإن دول المجلس لم تأخذ أكثر من سنة واحدة بعد إنشاء المجلس في عام 1981م حتى بدأت معدلات الفائدة في دول المجلس تتحرك في الاتجاه نفسه وبالنسب نفسها في أغلب الأحيان. ومن الممكن إرجاع هذا التقارب الشديد في معدلات الفائدة إلى ثلاثة أسباب جوهرية: الأول والأهم هو أن كل عملات دول المجلس باستثناء الكويت مقومة بالدولار، أما بالنسبة للكويت فإن عملتها مقومة مقابل سلة من العملات وإن كان نصيب الأسد هو للدولار الأمريكي. وبما أن أسعار صرف عملات دول المجلس ثابتة مقابل الدولار، فإنه يمكن بوضوح ملاحظة أن معدلات الفائدة في دول المجلس تتبع إلى حد كبير معدل الفائدة في الولايات المتحدة وهذا التقارب ما هو إلا دليل واضح على ثبات ومصداقية البنوك المركزية الخليجية في دعم وتثبيت أسعار صرف عملاتها مقابل الدولار خلال العقدين والنصف المنصرمين. أما السببان الثاني والثالث فهما ثبات واستقرار معدلات التضخم وأسعار الصرف على التوالي في دول المجلس.
ومنذ عام 1985م كانت وما زالت معدلات التضخم في دول المجلس وإلى وقت قريب منخفضة ومتقاربة إلى حد ما مع بعض الاستثناءات. وفي بداية التسعينيات عاشت الكويت مرحلة قصيرة جداً مع تضخم عال يقارب 15 في المائة بسبب مشاريع الإعمار بعد اجتياح العراق للكويت في عام 1990م. الاستثناء الثاني هو قطر في منتصف التسعينيات، عندما قامت بإنشاء المشاريع الضخمة بعد اكتشاف الغاز الطبيعي. أما الاستثناء الثالث فهو الارتفاع الشديد في معدلات التضخم خلال السنوات الثلاث الماضية في كل من قطر والإمارات بسبب النمو السريع في القطاع العقاري. وبالنسبة إلى الاستثناء الأخير فإن أغلب الإحصاءات الصادرة من المنظمات الدولية والبنوك الاستثمارية تتوقع انخفاض التضخم في كلتا الدولتين مع نهاية 2008م وبداية عام 2009م بالتزامن مع انتهاء بعض المشاريع العقارية في كل من القطاع الإسكاني والتجاري. فإذا استبعدنا هذه الاستثناءات فإنه يمكن إيعاز هذا التقارب الشديد بين معدلات التضخم في دول المجلس إلى عدة أسباب:
أولاً: خلال الفترات الماضية وعندما كانت أسعار النفط منخفضة للغاية وكانت حكومات دول المجلس تحقق عجوزات في ميزانياتها بسبب الاعتماد الكبير على إيرادات النفط، قامت حكومات هذه الدول بتمويل بعض العجز من خلال السحب من احتياطياتها الأجنبية التي تراكمت عندما كانت أسعار النفط عالية. وفي العادة فإن أغلب دول العالم تقوم بطباعة نقود إضافية من أجل تمويل العجز الحكومي، ولكن طباعة النقود يصاحبها في العادة ارتفاع في معدلات التضخم. وبما ان اقتصادات دول المجلس تعتمد إلى حد كبير على إيرادات النفط، فان هذه الدول تمكنت من تكوين الصناديق السيادية والاحتياطات الأجنبية من خلال إيرادات النفط والتي يمكن اللجوء إليها في تمويل العجز الحكومي خلال فترات انخفاض الإيرادات النفطية.
ثانيا: إن الهدف النهائي لجميع البنوك المركزية الخليجية هو تحقيق استقرار عام في الأسعار على المدى الطويل. هذا الهدف كان ولا يزال محل اختبار خلال السنوات الثلاث الماضية بسبب الإنفاق الحكومي الضخم على مشاريع البنية التحتية، وإنفاق القطاع الخاص على المشاريع الضخمة في مختلف القطاعات، وأخيرا ارتفاع فاتورة الواردات بسبب انخفاض قيمة الدولار. ولذا فإن السؤال هو هل ستتمكن دول المجلس في المستقبل القريب وقبل إصدار العملة الخليجية الموحدة من استعادة التقارب الشديد بين معدلات التضخم التي كانت تتمتع بها قبل الارتفاع الكبير في أسعار النفط؟ نترك إجابة هذا السؤال ربما لمقالة مقبلة.
ثالثا: ربط عملات دول المجلس بالدولار الأمريكي، حيث تمكنت جميع البنوك المركزية الخليجية من تقييد وتحجيم التوقعات المستقبلية للتضخم عن طريق اتباع سياسة نقدية ثابتة ومنتظمة تتمثل في المحافظة على أسعار الصرف ثابتة عن طريق محاكاة السياسة النقدية للبنك المركزي الفيدرالي الأمريكي.

أسعار الصرف
إن الاستقرار والثبات في أسعار صرف عملات دول المجلس مقابل الدولار الأمريكي خلال العقدين الماضيين نرجعه إلى سببين جوهريين:
السبب الأول والأهم هو أن دول المجلس تمكنت من بناء احتياطياتها الأجنبية خلال الفترات التي كانت فيها أسعار النفط مرتفعة، ومن ثم تمكنت من الدفاع عن أسعار صرف عملاتها خلال فترة المضاربات على عملاتها من قبل بعض المضاربين في أسواق العملات. أما السبب الثاني فهو الاتساق والثبات في السياسات النقدية المتخذة من قبل البنوك المركزية الخليجية من أجل المحافظة على أسعار صرف عملاتها مقابل الدولار.

معايير التقارب المالية
عندما أقر المجلس الأعلى في قمة أبو ظبي معايير التقارب المالية في نهاية عام 2005م، فإنه تم تحديد متغيرين اقتصاديين لقياس درجة التقارب المالي:
1-أن الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لا يتعدى نسبة 60 في المائة.
2- أن العجز السنوي في الميزانية المالية الحكومية إلى الناتج المحلي الإجمالي لا يتعدى نسبة 3 في المائة.
وبناء على البيانات التاريخية المتوافرة، يتضح أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لدول المجلس خلال السنوات الأربع الماضية. ومن السهل ملاحظة محاولة حكومات دول المجلس تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من خلال سداد الدين العام باستخدام الفوائض المالية الناتجة من الارتفاع الكبير في الإيرادات النفطية. فمثلاً تمكنت السعودية من تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 65.5 في المائة في نهاية عام 2004م إلى 19 في المائة في نهاية عام 2007م. هذا التقارب الكبير بين دول المجلس من ناحية نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي أمكن تحقيقه بفضل الارتفاع المتواصل في أسعار النفط وبالتالي في الإيرادات النفطية خلال السنوات القلائل الماضية. وإذا استمرت أسعار النفط عند مستويات عالية فإن دول المجلس لن تواجه أي تحديات في الالتزام بمعيار نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في مراحل التمهيد لإصدار العملة الخليجية الموحدة أو بعد إصدارها في عام 2010م. الاختبار الحقيقي لدول المجلس يكمن في حالة انخفاض الإيرادات النفطية وبالتالي الحاجة إلى الاقتراض لتمويل الميزانية المالية الحكومية. لذا فقد تواجه بعض دول المجلس بعض التحديات للالتزام بنسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بسبب الاختلاف النسبي في الاعتماد على الإيرادات النفطية في الميزانيات المالية الحكومية. وإذا استمرت دول المجلس في استخدام الفوائض المالية الحالية لتنويع قاعدتها الاقتصادية وتقليل اعتماد ميزانيتها على الإيرادات النفطية فإن ذلك قد يساعدها على الالتزام بهذا المعيار المالي.
ومن ناحية العجز المالي الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي لدول المجلس فإن هناك تقاربا كبيرا بين دول المجلس بسبب الاعتماد الكبير على الإيرادات النفطية في الميزانيات المالية الحكومية. عند ملاحظة العجز أو الفائض إلى الناتج المحلي الإجمالي منذ بداية السبعينيات إلى نهاية عام 2006 يتضح أن هذا المعيار يتحرك في الاتجاه نفسه وبالنسبة نفسها مع التغيرات في أسعار النفط. ففي خلال السبعينيات، تمكنت دول المجلس من تحقيق فوائض مالية في ميزانياتها الحكومية بسبب الطفرة الأولى والثانية في أسعار النفط خلال 1973م و1979م على التوالي. ومنذ منتصف الثمانينيات إلى نهاية التسعينيات سجلت دول المجلس عجزا في ميزانياتها بسبب أسعار النفط المتدنية واستمرار الإنفاق على البنية التحتية والبرامج الاجتماعية التي بدأتها حكومات دول المجلس عندما كانت أسعار النفط مرتفعة. أما خلال السنوات القلائل الماضية فإن جميع دول المجلس حققت فوائض مالية كبيرة في ميزانياتها بفضل الارتفاع في أسعار النفط. كما نلاحظ أن هذا المعيار يتحرك بصفة متلازمة مع تحركات أسعار النفط، وبالتالي فقد تواجه حكومات دول المجلس صعوبة كبيرة في الالتزام بهذا المعيار ما لم تتمكن من تنويع من قاعدتها الاقتصادية وتقليل اعتمادها على الإيرادات النفطية. وإذا تمكنت دول المجلس من تحقيق الهدف الأخير، فإنه من الأفضل النظر إلى نسبة العجز السنوي غير النفطي في المالية الحكومية إلى الناتج المحلي غير النفطي، لأن هذا المعيار يستبعد التغيرات الكبيرة في أسعار النفط وبالتالي إجمالي الإيرادات المالية الحكومية.

التقارب الاقتصادي الحقيقي
التقارب الحقيقي بين أي مجموعة من الدول يعني تزامن حدوث الدورات الاقتصادية بينها. وبما أنه ليس هناك مقياس محدد ودقيق في النظريات الاقتصادية لقياس هذا التزامن، فإنه يمكننا النظر إلى مجموعة من المتغيرات الاقتصادية لقياس التقارب الحقيقي بين دول المجلس (مثل نسبة التغير في الناتج المحلي الإجمالي، أسواق العمل، وحجم التجارة البينية بين دول المجلس).
ويتبين أن نسبة التغير في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة في دول المجلس منذ بداية الثمانينيات إلى نهاية 2006م. ويمكن ملاحظة أسباب التقارب الشديد بين دول المجلس في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال العقدين الماضيين مع بعض الاستثناءات. أولها: الانخفاض الكبير في معدل النمو في الكويت في عام 1990م بسبب غزو العراق للكويت، ثم الارتفاع الكبير في النمو في عام 1992م بسبب مشاريع إعادة الإعمار بعد تحرير الكويت. ثانياً: قامت قطر في منتصف التسعينيات بإنشاء مشاريع البنية التحتية بعد اكتشاف الغاز الطبيعي مما أدى إلى الارتفاع الكبير في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي. وإذا استبعدنا هذين الاستثنائين فإنه يمكن إيعاز هذا التقارب الكبير في معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي بين دول المجلس إلى أهمية القطاع النفطي في اقتصادات هذه الدول. وبما أن الناتج المحلي الإجمالي لدول المجلس يتأثر ويتحرك مع التغيرات في القطاع النفطي بسبب التغيرات في أسعار النفط، فإنه من المناسب النظر إلى درجة التقارب في معدلات النمو في القطاع غير النفطي بسبب أن هذا المعيار يقيس درجة التقارب الحقيقي بين دول المجلس التي يحاول أعضاؤها تنويع قاعدتهم الاقتصادية على المدى الطويل. فإذا تمكنت بعض دول المجلس من ذلك ولم يتمكن البعض الآخر منه فقد تواجه دول المجلس بعض التحديات بعد إنشاء الاتحاد النقدي بسبب اختلاف معدلات النمو بين الدول الأعضاء، وبالتالي فقد تواجه السلطة النقدية الخليجية بعض الصعوبات في اتخاذ سياساتها النقدية بسبب حاجة بعض الدول إلى سياسة نقدية توسيعية والبعض الآخر إلى سياسة نقدية انكماشية أو بقاء السياسة النقدية على حالها.
وبسبب محدودية البيانات التاريخية فإنه يتضح أن معدلات النمو الحقيقية في القطاع غير النفطي لدول المجلس خلال السنوات الأربع الماضية. ويمكن ملاحظة أن درجة التقارب في هذا المعيار أقل بكثير من درجة التقارب في معدلات النمو في الناتج المحلي الإجمالي . وبما أن السوق الخليجية المشتركة انطلقت مع إطلالة عام 2008م فإن الأمل معقود على القطاع الخاص لزيادة الاستثمارات في كل المجالات لتقليل اعتماد دول المجلس على القطاع النفطي، وعلى حكومات دول المجلس بمساعدة القطاع الخاص تحقيق هذا الهدف من خلال توحيد وتنسيق السياسات والتشريعات الاقتصادية والقانونية بالأخص.
وبالنسبة لأسواق العمل في دول المجلس فإنها تتمتع بمرونة كبيرة بسبب اعتماد القطاع الخاص على العمالة الأجنبية، وبالتالي إمكانية التأقلم والتكيف مع الدورات الاقتصادية من خلال زيادة أو تقليص عدد العمالة الأجنبية بسهولة. ومع بداية حملات توطين الوظائف في دول المجلس خلال السنوات الماضية، فقد كان هناك بعض التخوف والحذر من أن زيادة العمالة الوطنية في القطاع الخاص من الممكن أن تقود إلى تقليل مرونة القطاع الخاص بسبب صعوبة الاستغناء عن العمالة الوطنية في حالة الركود الاقتصادي. ولكن هذا التخوف قد يتلاشى مع مرور الوقت بدخول دول المجلس السوق الخليجية المشتركة والتي تعطي الحق لمواطني دول المجلس في "المساواة التامة في المعاملة" في مجال العمل.
لقد ازداد حجم التجارة البينية بين دول المجلس خلال العقدين والنصف المنصرمين وبالأخص بعد قيام الاتحاد الجمركي في بداية عام 2003م. فمنذ نشأة منطقة التجارة الحرة في عام 1983م إلى ما قبل قيام الاتحاد الجمركي في عام 2003م ارتفع حجم التجارة البينية من ستة مليارات دولار إلى 15.2 مليار دولار في 1983م و 2002م على التوالي. وحدثت النقلة النوعية في التجارة البينية بعد قيام الاتحاد الجمركي في عام 2003م، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري البيني من 15.2 مليار دولار إلى 33 مليار دولار في نهاية كل من 2002م و2006م على التوالي. ويمثل هذا الارتفاع الكبير في حجم التبادل البيني معدل نمو يقارب 30 في المائة خلال السنوات الثلاث من 2003م إلى 2005م.
وأود أن ألفت انتباه القارئ الكريم إلى ان هذه الإحصاءات لا يمكنها إعطاء الصورة الكاملة والواضحة عن الحجم الحقيقي البيني لأن إجمالي الصادرات يزداد بزيادة الصادرات النفطية، وكذلك إجمالي الواردات التي ترتفع مع الزيادة في الإنفاق الحكومي والخاص بسبب زيادة الإيرادات النفطية، وبالتالي فإن نسبة التبادل البيني إلى إجمالي الصادرات أو الواردات قد تنخفض إذا كانت الزيادة في إجمالي الصادرات أو الواردات أكبر بكثير من حجم الزيادة في التجارة البينية.

باحث اقتصادي
[email protected]

الأكثر قراءة