استثمار العائدات النفطية (1 من 2)
إحدى الحالات الدراسية التي دائما ما يستشهد بها في أدبيات الأعمال الدولية لتطوير السياسات النفطية الوطنية، بما يضمن تحقيق التنمية المستدامة للاقتصاد الوطني، التجربة النيجيرية في إدارة عوائد النفط.
توضح التجربة انعكاسات تواضع السياسات النفطية الوطنية على مستويات العرض والطلب في أسواق النفط العالمية. فدائما ما توافينا وسائل الإعلام المختلفة بأخبار حول حالات من الفلتان الأمني في منطقة دلتا النيجر في الجنوب النيجيري المتاخم لساحل خليج غينيا.
فتارة خطف عمال نفط صينيين، وتارة قتل عمال نفط كوريين، وتارة هجوم مسلح على مصفاة نفطية، وتارة سلب ونهب مستودعات شركات النفط الأجنبية، وتارة تخريب شبكة أنابيب نقل النفط إلى خليج غينيا.
العامل المشترك في جميع حالات الفلتان الأمني هذه هو التوجه نحو الإضرار بمصالح شركات النفط الأجنبية العاملة في حقول النفط النيجيرية الواقعة في منطقة دلتا النيجر دون غيرها من بقية المناطق النيجيرية.
تثير حالات الفلتان الأمني هذه العديد من التساؤلات المحلية والدولية.
محليا، تثير تساؤلات حول مسببات الأحداث، وكفاءة السياسات النفطية الوطنية النيجيرية في تحقيق النمو والرخاء للمواطنين النيجيريين.
ودوليا، تثير تساؤلات حول مقدرة السياسات النفطية النيجيرية على تلبية احتياجات أسواق النفط العالمية، ولا سيما وجميع حالات الفلتان الأمني هذه تلقي بظلالها على مستويات العرض والطلب ومن ثم الأسعار والعقود الآجلة.
يشير مركز دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا إلى أن جذور صناعة النفط النيجيرية تعود إلى نهاية الثلاثينيات الميلادية من الألفية الماضية، عندما منحت الحكومة البريطانية شركة رويال دويتش شل النفطية امتياز التنقيب عن النفط في الأراضي النيجيرية.
تطورت العلاقة النيجيرية مع النفط بعد عام 1958 عندما أعلنت الشركة عن اكتشافات نفطية كبيرة في منطقة دلتا النيجر، في جنوب نيجيريا والمتاخمة لخليج غينيا، بشكل أهل المنطقة لكي تصبح لاحقا المنطقة الرئيسة لإنتاج النفط النيجيري.
لم تمض ثلاثة أعوام حتى حصلت نيجيريا على استقلالها من بريطانيا عام 1961، وليبدأ بعدها الشعب النيجيري مباشرة تنفس الصعداء تحت حكومة وطنية مستقلة، وعملية بناء وتنمية دولة استمرت حتى اليوم.
اتجهت توقعات المراقبين الدوليين في تلك الفترة إلى الجزم بتبوؤ الاقتصاد النيجيري مكانة مرموقة في خريطة العالم الاقتصادية، عطفا على وجود العديد من المقومات الاستراتيجية، من أهمها، الموقع الجغرافي في جنوب غرب القارة السمراء، والثروات الطبيعية التي تزخر بها الأراضي النيجيرية والتي في مقدمتها النفط والغاز الطبيعي، والأراضي الزراعية الخصبة الممتدة على طول البلاد، والمستوى التعليمي المتقدم للشعب النيجيري مقارنة ببقية الدول الإفريقية.
وعلى الرغم من وجود جميع هذه المقومات الاستراتيجية، إلا أن إنجازات اليوم لم ترتق إلى توقعات الأمس. فما زال الاقتصاد النيجيري يعتمد بشكل رئيس على النفط، الذي يشكل قرابة 30 في المائة من إجمالي الناتج المحلي.
كما يشكل النفط أيضا قرابة 95 في المائة من عائدات التبادل التجاري، و80 في المائة من الإيرادات الحكومية، أضف إلى هذه المؤشرات تراجع نمو القطاع الزراعي مما تسبب في قلب آية التصدير الزراعي لتصبح نيجيريا مستوردا رئيسا للمنتجات الزراعية، عوضا عن مصدر رئيس.
انعكست جميع هذه الإنجازات الاقتصادية المتواضعة سلبا على مؤشرات الاقتصاد النيجيري. فانخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي من قرابة 690 دولارا أمريكيا عام 1981 إلى 230 دولارا أمريكيا عام 1995. وزادت الديون الخارجية لتلامس سقف الـ 40 مليار دولار أمريكي.
تشير أدبيات الأعمال الدولية إلى أن تحديات صناعة النفط النيجيرية ترتبط بتحديات سياسة طفت على سطح الاقتصاد النيجيري منذ منتصف الستينيات الميلادية من الألفية الماضية. فما لبثت نيجيريا أن حصلت على الاستقلال من بريطانيا عام 1961 حتى دخلت في حرب أهلية ضروس.
أوقدت الحرب الأهلية نيران الفتن وأيقظت نعرات العصبية بين أبناء الشعب الواحد. تشير إحصاءات مركز الأبحاث الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية والتدريب للدول الإسلامية "مركز أنقرة" إلى أن تعداد الشعب النيجيري يفوق الـ 150 مليون نسمة.
ينقسم هذا التعداد الكبير إلى ما يزيد على 250 طائفة عرقية. شكل تباين توزيع الثروات الطبيعية بين المناطق الجغرافية، وتباين المعتقدات والرواسخ بين طائفة وأخرى، وتباين الولاء الإقليمي لهذه الطوائف بين: الكاميرون، تشاد، والنيجر، وقودا كافيا لاستمرار نيران الحرب الأهلية قرابة الـ 20 عاما.
أطفئت نيران الحرب الأهلية مطلع الثمانينيات الميلادية من الألفية الماضية بطريقة غير شرعية حسب مفهوم أدبيات القانون الدولي. حيث قادت مجموعة من ضباط الجيش انقلابا عسكريا استطاعت من خلاله إنهاء الحرب الأهلية وإحكام قبضتها الحديدية على طوائف الشعب النيجيري كافة.
يتبع الأسبوع المقبل، بعون الله، تطورات الأحداث، والسياسات، والانعكاسات على أسواق النفط العالمية.