الطبقة المتوسطة وخوازيق العولمة الاقتصادية ..
سعر كيس الرز البسمتي 45 كيلو جراما الذي تستهلكه عائلة سعودية متوسطة (8-10 أفراد) في شهر في حال عدم وجود ضيوف ارتفع سعره ليلامس 280 ريالا وهو مرشح لتجاوز 400 ريال في الأشهر القليلة المقبلة كما تقول التقارير الصادرة عن الدول المصدرة ووكلاء استيراد وتوزيع الأرز في بلادنا، ولم أجد لغاية الآن تقريرا يشير إلى وجود فجوة حقيقية بين المطلوب والمعروض من الأرز، أو تقريرا يشير إلى نقص في الأراضي الصالحة لزراعة الأرز في العالم، أو آفة مفاجئة أصابت زراعة الأرز في مقتل فقلصت الإنتاج بشكل كبير.
إذن لماذا هذا الارتفاع الجنوني المفاجئ والمتواصل؟ كلنا يعرف أن هناك وسطاء عدة بين المنتجين والمستهلكين لأي منتج أو خدمة، ومن هؤلاء وكلاء التصدير ووكلاء الاستيراد والمضاربون، ولا شك أن أخطر هؤلاء هم المضاربون الذين ما إن يتكالبون على سوق حتى يعيثوا فيها الفساد والدمار بالشكل الذي ينعكس سلبا على المنتجين والمستهلكين بشكل كبير، وإن كان الضرر الأكبر يقع على المستهلكين، المضاربين الذين يجب أن يكون دورهم تحفيزيا (بهارات) لأي سوق تصبح بهاراتهم سموما على تلك السوق حال تحويلهم تلك السوق من سوق عرض وطلب حقيقي إلى سوق مضاربية.
وبالطبع هذا لا يعفي وكلاء التصدير في الدول المنتجة ووكلاء الاستيراد في الدول المستهلكة من المسؤولية حيث يعتري بعضهم الجشع من ناحية، كما يعتري بعضهم الكسل التخطيطي والتنظيمي لعدم تمكين المضاربين من السيطرة على أسواقهم، ولا شك أن وكلاء الاستيراد في الدول النامية ومنها بلادنا يعانون كسلا تخطيطيا وتنظيميا كبيرا مما يجعل معظمهم أصفارا على الشمال في أسواقهم، أصفارا لا سبيل لها سوى الشكوى المريرة كما المستهلكون تماما وكأنهم لا حول ولا قوة لهم في أسواقهم التي يعملون بها لعقود طويلة بأموال كبيرة تمكنهم من المشاركة في الإنتاج لو عملوا برؤية إستراتيجية بعيدة المدى لا من خلال تكتيكات كسولة بسيطة.
وللمعلومية فإن معظم وكلاء استيراد الأرز في المملكة لم يكلفوا أنفسهم العناء للسفر قبل أزمة الأسعار الحالية للدول المصدرة والاطلاع على وضع تجارة الأرز في تلك البلدان إنتاجا وتوزيعا وتسويقا وتصديرا من أجل الدخول في معادلة تلك الأسواق في أكثر من موقع ليصبحوا أرقاما صعبة لها القدرة على صد أي هجوم مضاربي على تلك الأسواق والحد من آثاره، ولكن وللأسف الشديد ربح وفير بجهد يسير دون رؤية بعيدة المدى، فكان أن جاءت العولمة الاقتصادية فأصبحت الموارد موارد الجميع، والأسواق مفتوحة للجميع، ورفعت كل أو بعض أشكال الدعم والحماية من بعض الأسواق مما أدى إلى مواجهة شرسة بين منشآت اقتصادية تعاني تخطيطا فوق الحاجة وأخرى تعاني تخطيطا منعدما أو دون الحاجة، ولكم أن تتصوروا لمن ستنجلي المعركة ؟! فكان أن سيطر المضاربون على تلك الأسواق في غياب قوى أخرى تستطيع مواجهتهم أو الحد من جشعهم.
ما يجري في سوق الرز يجري في أسواق أخرى ومنها أسواق الطاقة حيث يصرخ منتجو النفط بأن العرض يلبي الطلب وزيادة وأن الارتفاع الكبير والمستمر في الأسعار بفعل مؤسسات مضاربية في البورصات العالمية، وأن الارتفاعات غير مبررة بحال من الأحوال، ولكن لا حياة لمن تنادي، ولا أعتقد أن المؤتمر الذي عقد في بلادنا سيؤدي إلى نتيجة تذكر غير تبرئة الدول المنتجة من دم يوسف، وهو هدف جيد يقينا شر كراهية العالم لنا كدولة من كبريات الدول المنتجة للنفط.
قبل أكثر من عقد من الزمان كان كثير من مواطني العالم المتقدم يتظاهرون ضد اتفاقيات القات ومن ثم ضد منظمة التجارة العالمية، ومن أهم أسباب تلك المظاهرات القول بأن اتفاقيات منظمة التجارة العالمية هي من مصلحة الشركات الكبرى التي ستزيد الأغنياء غنى وتزيد الفقراء فقرا وتدفع بمزيد من أفراد الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة، وأن هذه الاتفاقيات بطريقة أو بأخرى ستضعف الحكومات أمام الشركات العملاقة لتفعل ما تفعل بالشعوب دون وجود قوة فاعلة تمنعها، وهو ما ينذر بتحول الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية حيث تصبح تلك الشركات مسيطرة على مقدرات ومصالح الدول، وللأسف الشديد لم نستطع أن ندرك ذلك بوضوح لقلة المعرفة والخبرة، ولكن وللأسف الشديد أيضا بدأنا نرى بوادر حقيقة هذه المقولات على شكل خوازيق أعدت لنا لنجلس عليها على مراحل لننزف ما في جيوبنا حتى الموت.
نعم وللحقيقة أقول إن الطبقة المتوسطة في بلادنا والدول الخليجية الغنية المجاورة فضلا عن الدول العربية الفقيرة بدأت ننزف بعد أن أسست كثير من السلع والخدمات قواعد سعرية عالية لا أعتقد أنها ستنخفض عنها إذا لم تزد حيث تتلبد سحب سوداء في سماء التضخم الخارج عن السيطرة، مقابل عدم تأسيس الرواتب والأجور قواعد جديدة تتناسب وقواعد الأسعار المتزايدة، وأعتقد أن المستقبل لا يبشر بخير إذا لم يتم تدارك تلك الطبقة ورفعها عن خوازيق العولمة الاقتصادية التي آلمتنا مخاطرها ولم تفرحنا فرصها المخصصة للمنشآت الاقتصادية المتقدمة الأكبر حجما والأكثر سرعة من منشآتها الاقتصادية، التي يحبو معظمها على الركب في سباق يأكل الأسرع فيه الأبطأ.
ختاما، أرجو من مجتمع الأعمال ممثلا بمجلس الغرف التجارية أن يتعاضد مع حكومتنا الرشيدة لإيجاد حلول جذرية ترفع من كفاءة منشآتنا الاقتصادية الحكومية والخاصة لتكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية في ظل معطيات العولمة الحالية والمستقبلية لتصبح أرقاما صعبة قادرة على تحقيق مصالحها بتحقيق مصالح الوطن والمواطن من أجل تنمية شاملة ومستدامة وحياة كريمة تتناسب والإمكانات المتاحة.