الصحافة مرآة المجتمع والأفراد
في كل يوم أتناول فيه مائدتي الثقافية، متمثلة في الصحف، والمجلات، أو البرامج الإذاعية، والتلفزيونية أجد نفسي أزداد معرفة، وثقافة وإلماماً بما يحيط بي، كما أجدها فرصة لمعرفة ظروف المجتمع، وطريقة تفكير الناس، وما يهمهم ويؤرقهم في أي مجال، أو في أي شأن من شؤون الحياة المتعددة، والمتنوعة. المائدة اليومية أجدها متنوعة، ولذيذة في الوقت ذاته، متنوعة لأنها تحتوي على مواضيع كثيرة حيث أجد فيها السياسة، والاقتصاد، والتربية والتعليم وهمومها، وأخبار المعلمين، والمعلمات، والمدارس، وما يُقال بشأن المناهج، أو ما يقال وبصورة خاصة في هذه الأيام بشأن الامتحانات، وغيرها من الأخبار، والمعلومات، كما أجد شيئاً حول التقنية، والأمن، والصحة، والفقر، والرياضة، وهذه مواضيع مهمة لأن شرائح متعددة من المجتمع تهتم بها، وتتابعها، وتعنى بها، ومن خلال ما يطرح في وسائل الإعلام، خاصة الصحافة، يتعرف المرء على حقيقة المجتمع، وهمومه، كما يتعرف المرء بصورة أدق على مكونات المجتمع، والكثير من التفاصيل بشأن هذه المكونات. إن اطلاع الفرد على ما يكتب، وما يطرح ولفترة طويلة من المتابعة يمثل مدخلاً أساسياً، ومهماً لمعرفة المجتمع والأفراد على حد سواء، إذ إن تكرار ما يطرح، والاستمرار فيه يُعد مؤشراً على أهمية هذا الشيء للمجتمع أو لشريحة منه، وأهمية تجذيره في نفوس الناس، كما يرى من يطرح الموضوع. قبل فترة ليست بالقصيرة قرأت كتاباً يحمل عنوان "صورة العرب في الصحافة البريطانية"، وهو من الكتب المترجمة، ومن منشورات مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، هذا الكتاب اعتمد فيه مؤلفه على الصحافة البريطانية وما نشر فيها لفترة طويلة، حيث قام بعمل تحليل مضمون لكل ما ذكر بشأن العرب من خبر، أو مقال، أو تحليل، أو رسم كاريكاتوري، وذلك بهدف معرفة النمط السائد، والمسيطر بشأن ما تتم كتابته حول العرب، وقد اعتمد مؤلفه على ما يسمى في العلوم الإنسانية بمنهج تحليل المحتوى، وخلاصة القول بشأن ما ورد في هذا الكتاب أن الصحافة البريطانية تعتمد نشر السيئ بشأن العرب، وتتجنب الحسن بهدف رسم صورة غير حسنة في ذهن الإنسان البريطاني، وذلك لتشويه صورة الإنسان العربي، وتأكيد هذه الصورة السيئة حتى لا يتعاطف الشعب البريطاني مع العرب وقضاياهم مثل قضية فلسطين، وفي مثل هذا الصنيع تبرير غير مباشر لسياسات بريطانيا المجحفة بحق العرب، إذ إن النتيجة الحتمية التي يخرج بها البريطاني مما يكتب هي، طالما أن العرب بهذا السوء فلا داعي للتعاطف معهم والدفاع عن قضاياهم. وهذا يمثل نمطاً سائداً في الصحافة البريطانية في تلك الفترة وربما لا يزال قائماً.
تذكرت هذا الكتاب الذي مر على قراءتي له مجموعة من السنين، وأنا أقرأ لبعض الكتاب الذين يكتبون في الصحافة، خاصة أولئك الذين لهم أعمدة ثابتة، حيث ألاحظ تعدد الأطروحات، وتباينها، وتنوع مشارب هؤلاء الكتاب، لكن المهم في الأمر هو مدى قناعة الفرد بما يطرحه، وانسجام أطروحاته مع ذاته، وتكوينه الشخصي، ولذا تساءلت هل هؤلاء الكتاب، وأعني بالتأكيد البعض منهم يؤمنون بما يكتبون، أم أن أموراً أخرى تحرك هؤلاء الكتاب، وتوجههم من حيث اختيار المواضيع، وطريقة الطرح؟! تأملت في الموضوع، وتعمقت في تحليل هذه الكتابات لكني لم أستخدم منهج تحليل المحتوى كمنهج علمي أستند إليه لأكتشف، إن كان هناك من نمط سائد، أو خيط يربط بين المواضيع التي يطرحها الفرد، رغم أنه سبق لي أن قمت بدارسة علمية على الصحافة المحلية، وبعض الصحف الإقليمية في موضوع من المواضيع، وتم نشر هذا البحث في مجلة علمية خارج الوطن. في تأملي وليس بحث العلمي فيما يكتب في صحافتنا ألفيت عدداً من الكتاب لديهم هوس في اختيار مواضيع تتعارض مع بعض المفاهيم، والقيم الاجتماعية بغض النظر عن مواقفنا الشخصية من هذه المفاهيم، وهذه القيم، وتساءلت عن سر طرح مثل هذه المواضيع، والإصرار على الكتابة فيها، وتناولها بصورة مستمرة، هل هؤلاء مؤمنون بما يكتبون وحماسهم وحرصهم على هذه الأمور هو الذي يدعوهم للإصرار على طرحها؟ أم أنهم يكتبون بإيحاء من هنا وهناك؟ كما تساءلت هل فكر هؤلاء بالمجتمع، ومصلحته التي لاشك أنه لا يقدرها، أو يحكم عليها فرد بعينه، خاصة إذا علمنا أن المصلحة الاجتماعية شأن عام يشترك في الاهتمام به، والمحافظة عليه الجميع.
ومن التساؤلات التي ألحّت علي في هذا الموضوع هل لتكوين الشخصية، وسمات وخصائص هؤلاء الأفراد الذين يصرون على اختيار مواضيع بعينها دور في طبيعة ما يطرحون وكيف يطرحون؟ لا شك أن الشخصية بتكوينها العام وميولها ورغباتها، وخصائصها من حيث الصلابة، والمرونة، والانفتاح، والانغلاق، ومن حيث القيادية، والتبعية، وما إلى ذلك من الخصائص دور مهم في تحديد نوع الاختيارات التي يقع عليها الكاتب. إن تاريخ الفرد، وما مر عليه من ظروف في سابق حياته لها دور في اختياراته، فمن مر بظروف شدة ومعاناة قد ترتسم هذه الكتابات على اختياراته، وأسلوبه، ومن مر بظروف رغد عيش وملاءة مالية قد يظهر هذا كذلك، كما أن الظروف الأسرية من حيث الاستقرار، أو عدمه لها دور في هذا الشأن. السؤال المهم بشأن ما يكتب من حيث الاختيار والأسلوب هل للتكوين المعرفي دور في وجود هذا النمط السائد أو النسق المستمر؟ الإجابة نعم، فمعرفة الإنسان وتخصصه قد تكون هي الأساس في هذا الشأن كما أن سعة اطلاع الكاتب، وثقافته العامة، إضافة إلى استناده إلى مدرسة فكرية قد يكون عاملاً جوهرياَ، لكن السؤال الأساسي هو هل كل من يكتب ينطلق من مدرسة فكرية يتبناها، أم أن بعض مَن يكتب ينطلق من منطلق مع الخيل يا شقراء، أو من منطلق "خالف تعرف"، الذي يلجأ إليه من يجدون أنفسهم بحاجة إلى إشهار ذواتهم، وعرض أنفسهم أمام الآخرين.
المصالح الذاتية، والسعي لتحقيقها من خلال هذه الكتابات قد تكون من العوامل التي تحرك البعض، وتوجه اختياراتهم لمواضيع يظنون أنها توصلهم إلى الهدف الذي يسعون لتحقيقه، ومثل هؤلاء لديهم حاسة استشعار قوية تمكنهم من معرفة ما يراد تناوله، وما لا يراد. ومهما كانت الأسباب التي تكمن وراء كاتب، أو كاتبه في الإصرار على موضوع أو مواضيع بعينها لا بد من التأكيد على أن وضوح الهدف، ووجود مرجعية يحتكم إليها الفرد ويشترك فيها مع غيره هي الأساس، إذ إن افتقاد الفرد المرجعية أو اعتماده على مرجعية لا يشاركه الآخرون فيها تجعل منه فرداً شاذاً، وأطروحاته مهما علا صوتها وجلجل تبقى نشازاً، ومرفوضة، ولا يمكن الأخذ بها من أي كان.