رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الوطنية والمواطنة

الوطن كلمة مجرد رؤيتها مطبوعة أو سماعها منطوقة تبعث الدفء وتثير كوامن الشجن، مع أن الوطن مفهوم عتيق يشير إلى مكان بعينه، يختزل حشداً من الصور والأحاسيس والذكريات والمعاني والأبعاد الروحية، الاقتصادية، التاريخية، الأنثروبولوجية، الثقافية وحتى الرومانسية وقد كان الوطن بقعة مكانية ثم تناسل جغرافيا فصار مع تقدم الزمن حيزا سياديا يسمونه الدولة، جلب إليه علاقات أكثر تجذرا وأشد تعقيدا، تداخلت فيه المكونات الاجتماعية بالاقتصادية بالسياسية، كما جلب لنفسه علاقة بشرية مميزة لها وجهان: أحدهما يدعي الوطنية والآخر يدعى المواطنة، فأي شيء يا ترى يعنيه هذان المفهومان؟!
أجزم سلفا أن جداراً من العجز سينهض أمام محاولة تحديد ما يعنيه مفهوم كل من الوطنية والمواطنة بالضبط. فرغم كونهما مفهومين نفيسين لهما جلالهما ووقارهما وهيبتهما في النفوس إلا أنهما مع ذلك مفهومان زئبقيان يفلتان من الإمساك ويستعصيان على القولبة والثبات فلهما عند كل شعب ولدى كل فرد معنى يدرك ويعاش ويحس غير أن الكلمات مهما كانت بليغة مخلصة لا تضبط المعنى متلبساً بنفسه ولا تصل إليه مهما أوتي صاحبها مجامع الكلم!!
على أن هذا التصعيد في القول ما هو إلا دعوة لكيلا نبتز الوطنية والمواطنة بالمثالية والطهارة أو نزايد عليهما كما لو أن المطلوب عالم ملائكي وليس بشراً لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. فقد واجهت الوطنية والمواطنة خياراً جحيمياً بين الأهلية لهما والاتصاف بهما وبين تهمة الخيانة، حدث هذا في أوطان عديدة على مدى التاريخ مثل عهود ستالين، هتلر، مكارثي، وصدام حسين وهو يحدث وسيحدث في كل مرة يختصر فيها حزب أو طاغية الوطن به، فها هنا لا يكون للوطنية ولا للمواطنة من قيمة وإنما ترتبك علاقة الولاء والانتماء لتتقدم عليها حاسة تقدير الذات مدافعة عن صاحبها بخفض سقف مكانة الوطنية والمواطنة فيه شعوريا ولا شعوريا، ربما تحت ضغط غريزة حفظ النوع!!
لكن ماذا لو جربنا القول: إن الوطنية هي حالة وجدانية مكثفة تعبر عن ارتباط الإنسان الروحي بوطنه وتتوقف درجة صدق وعمق هذا الارتباط على اعتبارات ذاتية وموضوعية حسب كل فرد، وقلنا إن المواطنة هي حالة مسلكية تأخذ معناها من استحقاقات الشراكة في الوطن والمساكنة فيه والتي تتطلب الالتزام بالواجبات والحقوق والمسؤوليات العامة لما فيه أمنه وتقدمه؟!
ألا يقودنا ذلك مرة أخرى إلى أن الوطنية ليست مفهوما ورعا زاهدا مشرئبا للمثالي حتى وإن صدحت الأناشيد بذلك وعبأناها بهذا الفيض الدافق المتأجج من الحماس للبذل حتى حدود التضحية، إذ الواقع والوقائع يؤكدان أن للوطنية احتياجاتها الفعلية كشروط لرسوخها التي تبدأ بتوفير أسباب العيش الكريم الآمن وتنفتح على مجمل التطلعات للحرية والتعبير عن الذات قولا وعملا، مثلما أن المواطنة تقودنا إلى ضرورة الانسجام مع التوافق الاجتماعي الذي ينجم عن غيابه انفراط كل عقد وميثاق أو معاهدة أو كلمة شرف وربما أسوأ الشرور.
ويبقى أن رفع سقف الوطنية والمواطنة أو خفضه على حساب فرد أو جماعة إيذان بشروخ، وتصدعات لا تسفر ولم تسفر عبر التاريخ إلا عن أخطاء جسيمة، فالوطنية والمواطنة لا تقومان إلا على أساس التسليم برحابة معنوية تقدر لكل مواطن إحساسه الخاص بهما وتقبل إدراكه الذاتي لمفهومهما مع التسليم المشترك بالتكافؤ في العلاقات والعدالة في فرص الامتيازات وهكذا، بهذا التحديد، تنفر الوطنية والمواطنة من التمييز والتعصب والاحتكار والأنانية وتلقيان كامل مقاليدهما لشرف المساواة في الواجبات والحقوق، أي أن الوطنية والمواطنة تنهضان على عقد روحي اجتماعي اقتصادي ثقافي مع المكان تمثل فيه السلطة حارسه والساعية إلى ترجمته عملياً برامج ومشاريع عبر مؤسسات الدولة وأنشطتها.
بهذا تصبح الوطنية والمواطنة غاية ووسيلة بحد ذاتهما .. فهما غاية لأنهما أصلا البقاء والتماسك والوجود والمادة اللاصقة للحمة الاجتماعية وهما أيضا وسيلة لكونهما تمثلان مصدر الطاقة الكامنة الدافعة للحراك الجمعي الذي يصنع المكانة للوطن ويحقق التقدم له. أي أنهما في علاقتهما بالوطن بمسارات متعددة في الاتجاهين: الأخذ والعطاء، ولا يعني ذلك مجرد علاقة نفعية صرفة وإنما هي بالتأكيد علاقة (مدرحية) مادية روحية.. أما غير ذلك فرجوع إلى أزمنة (قفا نبكِ)!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي