رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


شمس الغياب

"كريون: هل حثوتِ التراب على الجثة؟ أنتيجونا: أعترف أنني فعلت ذلك ولا أنكره قط! كريون: هل علمتِ مسبقا بالأمر الذي أصدرته في منع دفن الجثة؟! أنتيجونا: أجل.. وكيف أجهله ما دام علناً؟! كريون: وهكذا تجرأتِ على مخالفة أوامري وقوانيني!!" هذا مقطع من مسرحية كتبها (سوفوكليس) قبل نحو 2500 سنة (القرن الخامس قبل الميلاد) تتحدث عن ابني (أوديب) الذي قتل أحدهما الآخر فأمر الملك (كريون – أخو أوديب) حاكم (طيبة) اليونانية بدفن جثة أحدهما وبترك جثة الآخر تتعفن في العراء بحجة أنه حمل السلاح وقاتل ضد وطنه لانتزاع العرش من أخيه، إلا أن أختهما (أنتيجونا) ترفض الانصياع فتتقدم خفية وتدفن جثة أخيها مدافعة عن نفسها بأنه أخوها وأن ذلك واجب مقدس وأن على الخلافات السياسية أن تقف عند عتبة الموت غير أن الملك يعنفها مؤكداً لها: أنه وحده من يعلم الأحياء بالأموات، وحين يتدخل ابن الملك إلى جانب خطيبته (أنتيجونا) يحتدم النقاش لتبلغ المسرحية ذروتها التراجيدية بانتحار الخطيبين. رغم أن الملك كان قد تراجع عن موقفه تحت مشورة العراف (تيريزياس) إنما بعد فوات الأوان!! المسرحية تقول الكثير: إنها تسلط الضوء على محنة التباس الفضيلة بالرذيلة، الخيانة بالشرف، الوطن بالقرابة، الأعراف بالمقدس، خصوصا وقدماء اليونان كانوا يعتبرون عدم دفن الميت حكما عليه بالعذاب الأبدي.. لذلك تحدت (أنتيجونا) القوانين، عصت الأوامر واستخفت بالسلطة التي أرادت أن تجعل من المآرب الدنيوية لعنة أبدية تحيق بروح شقيقها، فـ "أنتيجونا" لا تقر أن من حق أي أحد، حتى لو كان خالها الملك (كريون) أن يمارس شذوذه القسري بعدم دفن جثة أخيها القتيل وأن ليس بوسعه إقصاء نبل العاطفة الأخوية السوية الصادقة عن أن تحنو الأخت على مصير أخيها بل أن تناضل من أجل صيانة حرمة كرامة روحه حتى لو وقفت في وجه مملكة طيبة بأسرها!! عجيبة هذه الثورة الجنائزية، كيف بها تدير رحى الروح الإنسانية لحظة وقوع الفاجعة فبدلاً من أن تنهار هذه المرأة أو تغرق في العويل، نجدها تقدح شررا يضيء بكلماتها الذهبية مفارق الأزمنة والعصور ليبقى موقفها المشرئب الشاهق أمثولة عن بسالة وروعة حدب الأخت على ملكوت أخيها، فقد كان بالنسبة لها يعدل جميع أهل طيبة، دفنه يعني كل الحب، كل الشرف، كل المجد والباقي باطل أباطيل!! الموقف ذاته سجلته، بصورة مغايرة، بعد سنين طوال، شاعرة عربية تدعى (أخت الطثرية) فحين خر أخوها (يزيد) صريعا بين أيدي المنايا صعدت هي الأخرى إلى ذروة التجلي، راحت كلمات تمجيد الأخ، بدلاً من الصراخ والنحيب، تتقافز من شغافها جمرا ناصعا بيتا من الشعر إثر بيت في قصيدة منذورة للحياة وليست للموت لأنها لم تشأ أن تجعل من رحيل أخيها رحيلا وإنما مقاما مؤتلق الطلعة مثلما كان بين قومه وعشيرته لذلك رسمته طودا شامخا في مهب الفناء فقالت إنه: "يسرك مظلوما ويرضيك ظالما / وكل الذي حملته فهو حامله إذ جد عند الجد يرضيك جده / وذو باطل إن شئت ألهاك باطله!" (أخت الطثرية) تجاهر بفخار أن أخاها يزيد في جوهره ومخبره، هو ذلك الرجل الفذ الرابط الجأش أمام الظلم سواء في حالة كونه مظلوما أو كونه ظالما فإنه يقابله بشهامة وشمم وبأخلاق الفرسان، لا خور أو جزع أو تهافت ولا بطش أو فحش أو استبداد.. وفوق ذلك فهو لا يتردد عن القيام بما يطلب إليه، بل إنه رغم جده وشكيمته ينطوي على روح الدعابة والبشاشة (ذو باطل إن شئت ألهاك باطله) ولا يخفى أن المقصود بـ (ألهاك باطله) أن شخصيته ساحرة آسرة في جلبها للفكاهة والأنس والمرح وليس (الشر). الأكيد أن المرأتين: (أنتيجونا) و(أخت الطثرية) لم تكونا تقصدان بموقفيهما وكلماتهما أن تحجزا لنفسيهما مقعديهما في سدة الخلود لكن ذلك ما حدث.. فيا لمهابة الموت حين يكون مشرقا لشمس الغياب، ينطق الفاني بالخالد!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي