لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها
المتأمل في هذا الكون يجد أن الله سبحانه وتعالى خلقه بصورة متكاملة متقنة تسير أفلاكه وأجرامه وفق نظام دقيق وثابت، كما أن العناصر الموجودة في الكون بشكل عام، وعلى الأرض التي نحيا عليها متوازنة، وبعضها يكمل البعض الآخر وذلك بهدف انتظام الحياة، وعدم اختلالها. وحتى يستمر النماء، وتواصل الحياة بصورتها الطبيعية جبل الإنسان على حب العمل، والإنتاج، والإبداع في جميع المجالات الزراعية، والاقتصادية والصناعية، والمالية، والإدارية إلا أن إبداعاته هذه ليست بالضرورة في مصلحة الإنسان في كل الحالات، بل إن بعضها يتعارض مع مهمة عمارة الأرض، والاستخلاف فيها، والتي يفترض أن تكون وفق أسس، وقواعد تحقق للإنسان حياة جيدة، وطبيعية، وفي الوقت نفسه تحافظ على العناصر الموجودة على الأرض من حيوان، ونبات، وهواء، ومواد خام بدلاً من إساءة التصرف، والعبث الذي يدمر البيئة، والعناصر الموجودة فيها.
سلوك الإنسان، وتصرفه اللا مسؤول كثيراً ما يؤدي إلى الإضرار بهذه العناصر، وتدميرها فالاحتطاب الجائر، وقطع الأشجار يؤدي إلى التصحر، وصيد الحيوانات المسرف يترتب عليه ندرة بعض الحيوانات إن لم يكن انعدامها، واختفاءها، حتى إبادة بعض الحشرات يترتب عليه نشوء مشكلات بيئية من نوع آخر كأن تكثر حشرات أخرى، أو يزيد نبات تتغذى عليه الحشرات المبادة مما يؤدي إلى إضرار هذه النباتات بنبات آخر وهذا مرده سلوك وتصرف الإنسان غير المنضبط.
تأملت في قوله تعالى"إنا كل شيء خلقناه بقدر" فألفيت أن الكثير من الأمور يصعب علينا إدراك الحكمة من وجودها، إذ إن ما قد نعتبره غير مجد، ومفيد، له فائدة عظمى، كما في حالة الحشرات التي قد لا ندرك أهميتها، وقيمتها في هذه الحياة إلا إذا ترتبت على اختفائها مشكلات من نوع آخر. سلوك الإنسان، وتصرفه يترتب عليه الكثير من الأمور المضرة به كفرد، وبمجتمعه، وبيئته، ولذا فإن استقامة الفرد، وصلاحه يترتب عليها الكثير من الفوائد، والمصالح على المستوى الفردي، أو الاجتماعي، أو البيئي. ولذا جاء النهي الإلهي المغلظ والشديد بشأن الإفساد في هذه الأرض "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها". الإنسان تسلم هذه الأرض وهي في أحسن صورة وأجملها لكن استمرار هذا الوضع يعتمد على سلوك الإنسان الذي يعيش عليها، كم من المناطق كانت خضراء منبتة، لكن جور الإنسان في التعامل مع الشجرة حول هذه الأماكن إلى صحراء جرداء، وكم من الأماكن كانت تعج بالحيوانات، والطيور لكن سوء تصرف الإنسان جعل هذه الأماكن مقفرة، وتخلو من الحيوانات، والطيور.
ترى ما أسباب هذا الوضع؟ لو تأملنا في عالم اليوم ماذا نجد؟ الشعار الذي رفعه الإنسان هو رفاه الإنسان، والحياة الكريمة، والبيئة الجيدة. هل تحقق هذا الشعار، أم بقي شعاراً لا أكثر ولا أقل من ذلك؟ واقع الحال يشير إلى أن الإنسان يسيئ لنفسه، ولغيره من البشر، يسيئ لبيئته، ومجتمعه باسم العلم في كثير من الأحيان. إن
فقدان فلسفة راشدة من شأنه أن يجعل الإنسان عدو نفسه، كما هو عدو مجتمعه، وبيئته، زيادة الكربون كيف حدثت؟ أليست من فعل الإنسان، والتصحر أليس بفعل الإنسان، وتلوث البيئة أليس بفعل الإنسان؟ هذه أمثله وغيرها الكثير، إن جوع، وجهل، ومرض الملايين في العالم لم يكن ليحدث لولا غياب الفلسفة الراشدة التي توجه الإنسان، وتجعله أقرب لأخيه الإنسان، بدلاً من قربه للمادة حتى أنه يرمي بالغذاء في البحر بغرض الحفاظ على الأسعار التي تناسبه. الزلازل التي تحدث بين فينة وأخرى، وتزيد في نسبتها أليست لأن الإنسان أسرف في تجاربه النووية تحت الأرض مما أوجد الخلل في تكوين الأرض وطبقاتها؟ لا شك أن جور الإنسان، وظلمه لنفسه، وللآخرين، وانعدام الرؤية السديدة الثاقبة جعلت الإنسان لا ينظر إلا من زاوية ضيقة محدودة بحدود الطمع، والتمركز حول الذات، مما قاده إلى الدخول في مجالات أفقدت العالم توازنه، والطمأنينة التي كانت موجودة، ولو بصورة نسبية. إن جرأة الإنسان على القوانين، والنواميس الاجتماعية والكونية أضر بواقع الحياة، ودمر الكثير من مقومات الحياة السليمة. جشع الإنسان جعله يصرف الأموال الطائلة على أبحاث، ودراسات تضر بالبيئة، وبالإنسان ذاته، إنه يبحث عن الرفاه، والاستقرار، لكن الطريق الذي يسلكه لا يوصله لهذه النتيجة، الأبحاث في مجالات الطاقة، والهندسة الوراثية أوجدت فتحاً لجوانب إيجابية، لكنها في الوقت ذاته أحدثت الكثير من الأضرار.
المزارعون في السابق كانوا يزرعون القمح، ويحصلون منه على غذائهم، وزيادة على ذلك البذور التي يزرعونها في العام أو الأعوام المقبلة، لكن الشركات الأمريكية أبت أن يستمر هذا الوضع، وبدأت في إجراء البحوث، والدراسات على بذور لا تنبت إلا مرة واحده، وعليه يحرم المزارع من الحصول على بذوره مما يزرعه، وعليه الاعتماد على ما تنتجه هذه الشركات والتي بدأت تطالب بحق الاختراع، وحماية هذه الحقوق الفكرية. إن نهجاً كهذا يؤكد لنا النزعة الفردية الجشعة التي ليس لها هدف سوى إخضاع الآخرين للنفوذ، واستغلالهم في كل الجوانب حتى لو كان ذلك على حساب معاشهم وحياتهم.
سعى الإنسان في العصر الحديث لإيجاد آليات تنظم العلاقات وتحفظ الحقوق، كما في منظمة هيئة الأمم المتحدة، ومنظمة الفاو للأغذية والزراعة، ومنظمة الصحة الدولية، واليونسكو، وهيئة الطاقة الدولية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، لكن هذه المنظمات تفقد أهميتها، وقيمتها أمام نزعة الجشع والتسلط التي لا تبقي مساحة للنزعة الإنسانية، إن بروز فلسفة الهيمنة، والتسلط، والشعور بالعظمة تقود الإنسان لتدمير نفسه كما في أبحاث الأسلحة النووية، والجرثومية، وكما في نظام حرب النجوم وغيرها ويصدق في حق الإنسان قول الشاعر.
يقضى على المرء في أيام محنته
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن