سيل الأسئلة الذي لا ينقطع
الأسئلة المتداولة في أروقة صناعة النفط تطرح الكثير من علامات الاستفهام الجديدة، الأمر الذي يشير بوضوح إلى غموض الصورة حتى بالنسبة للمستقبل القريب، وبالتالي صعوبة القطع باستراتيجية يمكن اتباعها للتعامل مع الواقع المتغير.
سيل الأسئلة لم ينته في واقع الأمر، وإنما يتغير محتواها وتوجهها من مرحلة إلى أخرى. فبدلا من السؤال السابق حول إمكانية تجاوز سعر 100 دولار للبرميل واحتمال بقائه في ذلك المعدل والتفسير المطلوب لتوضيح الأسس التي يستند إليها ذلك السعر، اتجهت الأسئلة منذ الأسبوع الماضي منحى جديدا يركز على انعكاس تصاعد مؤشرات الكساد في الاقتصاد الأمريكي، وإذا كان سينسحب على بقية الاقتصادات العالمية وتأثير ذلك في سعر برميل النفط. وبصورة أخرى هل الصناعة في وارد تكرار أزمة الانهيار السعري التي شهدتها في منتصف عقد الثمانينات وأواخر العقد الماضي عندما تراجع سعر البرميل إلى نحو عشرة دولارات.
ثم هناك السؤال حول الطلب وتأثير الأسعار التي تضاعفت خلال الأعوام القليلة الماضية، وإلى أي مدى ستسهم في خفض سعر البرميل، وفوق هذا دور المضاربين الذين تشير بعض التقديرات. كما عند المهندس علي النعيمي وزير النفط السعودي ـ أنها أضافت ما بين 20 إلى 30 دولارا للبرميل.
وفيما يتعلق بالطلب فإن دراسة لمؤسسة أبحاث الطاقة أشارت إلى أنه في الفترة بين عامي 2005 و2007 تراجع الطلب في الأسواق الدول الصناعية الرئيسة في الولايات المتحدة، أوروبا الغربية واليابان بنحو 700 ألف برميل يوميا، الأمر الذي يجعل الطلب المتوقع على النفط هذا العام يقل عن المليون برميل يوميا، على أن العامل الذي بدأ في البروز بقوة أن هذه الأسواق لم تعد المحدد الرئيس لتحركات سعر البرميل، إذ بدأ يتم التعويض عنها من الأسواق الأخرى، خاصة الآسيوية وتحديدا الصين والهند والدول النامية وعلى رأسها دول منطقة الشرق الأوسط المنتجة هي ذاتها للنفط، وأصبحت سوقا ناميا لاستهلاكه.
هذا التحول لا يقتصر فقط على الأسواق، وإنما بسبب شح المعلومات أو ضآلتها، فإن الوضع الحالي الخاص بالطلب ناهيك عن التوقعات المستقبلية تحيط به علامات الاستفهام المتكاثرة، الأمر الذي يجعل من أي تخطيط مستقبلي رجما بالغيب. وتظهر أبعاد هذا الوضع في أفضل تجلياته عندما فوجئ العالم قبل ثلاث سنوات بحجم الطلب الصيني، الذي أخذ الأسواق على حين غرة، وهو وضع لا يزال مستمرا بصورة أو أخرى.
وحتى الآن، فإن السوق الآسيوية تشكل الأرضية التي يقف عليها سعر برميل النفط وتمنعه من الانزلاق إلى مستويات دنيا مثل تلك التي شهدها مرتين خلال فترة العقد الماضي، فلم يعد كافيا معرفة الوضع في الدول الصناعية الرئيسة والتوقعات المستقبلية الخاصة بها.
حالة الغموض هذه والتوسع في الأسواق المستقبلية مضافا إليها ضعف الدولار جعل الكثير من المضاربين يتجهون إلى استخدام النفط مجالا للتحوط، الأمر الذي جعل قرابة ثلث سعر البرميل الحالي يعود إلى هذا السبب وليس لعلاقة بالعرض والطلب كما يفترض في الوضع العادي والتقليدي.
إن عمليات التحوط تعد في إحدى وجوهها وسيلة للاستفادة من حالة الغموض التي تعيشها السوق، وهي حالة مرشحة للاستمرار وضعا في الاعتبار العوامل المتداخلة التي تؤثر في سعر البرميل، خاصة تلك الجيوسياسية التي زاد تأثيرها نسبة لترابط العالم بصورة متنامية بسبب تيار العولمة، وهذا ما يشكل سببا ثانيا لإبقاء سعر البرميل مرتفعا مقارنة حتى بما كان عليه قبل عام.
التقديرات تتباين، حتى مع القناعة أن السعر يتجه إلى التراجع، فالبعض يرى أنه قد يستقر في حدود 80 دولارا، وهو ما يزيد بنحو ثمانية دولارات عما كان عليه في المتوسط خلال العام الماضي، بينما تصل التقديرات في أدنى مستوى لها إلى 65 دولارا للبرميل، وهو ما يزيد أيضا بنحو عشرة دولارات عما كان عليه في مطلع العام الماضي.
ترى ما الذي يمكن للمستهلكين أو المنتجين القيام به للتأثير في مسيرة سعر البرميل؟ المفارقة أن الخطوات التي يسعى إليها المستهلكون بقيادة الولايات المتحدة مثل تحفيز الوضع الاقتصادي وخفض معدلات الفائدة ستسهم من ناحية، إذا نجحت، في وقف التدهور وتمدد حالة الانكماش ومن ثم في تحسين وضع الطلب على النفط، وهم ما يشكل في حد ذاته عاملا لإبقاء سعر البرميل عاليا.
لكن من جانب المنتجين، فإنه في الوقت الذي تتزايد فيه الحاجة إلى نظرة بعيدة الأمد، فإن الوضع الآني والمتغيرات العديدة التي ليس لأحد سيطرة عليها، تجعل من مثل هذا التوجه ترفا لا يمكن اللجوء إليه، لذا يصبح خيار التكتيكات القصيرة الأجل وتأجيل اتخاذه حتى آخر لحظة ممكنة هو الخيار العملي الوحيد المتاح.